وقد يقول قائل: إذا كان القرآن بينًا وإنه لكذلك، فما مكان التفسير في ذلك؛ لأنَّ التفسير لا يكون إلَّا عند حاجة للتبيين، والقرآن الكريم كما تلونا من قبل كتاب مبين، وقرآن مبين، وبلسان عربي مبين، وهل يستغنى عنه.
ويبدو لي أنَّ العربي الذي لم تلتوِ لغته برطانة غير عربية، ويفهم العربية لا يحتاج إلى تفسير إلَّا فيما يتعلق بآيات التكليف العملي والأحكام العملية، وما يستنبط من القرآن، وإنها لتتفاوت في ذلك تفاوتًا كبيرًا.
ومهما يكن فإنَّ التفسير علم يدرس، وهو مفيد، وهو قائم منذ عهد التابعين إلى اليوم.
وله بلا ريب فوائده، وله غاية إن سلك المفسِّر الطريقة المثلى، وإن جعل المفسر مرامي القرآن هي المقصودة، ولا يتجه بكتاب الله إلى تحريف المعاني، والانحراف عن المقاصد، وإنه لا بُدَّ من التفسير لأمور كثيرة:
أ- العمل على ربط معاني القرآن بما ورد في السنة الصحيحة من بيانه، وفي استعانة بالمبين للقرآن وهو الحديث، ووضعه في مواضعه، حتى لا تضل الأفهام في فهم معاني الأحكام؛ ولأنَّ بعض ألفاظه يشترك بين عدة مدلولات، والسنة النبوية هي التي تحدد المدلول المراد.
ب- وإنَّ الذين يقرءون القرآن لبسوا جميعًا في مستوى العربي الذي يدرك معاني الألفاظ بمجرد استماعها، ومن الألفاظ ما فيه بعض الغرابة حتى على بعض العرب، بل بعض كبارهم، ولقد روي أن عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين لم يتبيِّن عنده معنى لفظ "أبَّا" في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس: ٣١] فقد سأل عن معنى الأب، واستكثر -رضي الله تعالى عنه- على نفسه ألَّا يغيب عنه معنى لفظ من ألفاظ القرآن.
هذا عمر -رضي الله عنه- يغيب عنه معنى لفظ من ألفاظ كتاب الله تعالى، فكيف تكون حال من دونه من الصحابة علمًا، وكيف تكون حالنا نحن الذين دخلنا العربية وفينا العجمة التي غلبت الفصحى في كل مكان.
ج- ولا بُدَّ من بعد ذلك من تفسير إلى اللغات غير العربية، أو يفسّر القرآن ابتداءً بغير العربية على أنَّه تفسير فسَّره واحد، أو اشترك فيه جماعة، ويكون المترجم هو التفسير الذي يذكر معنى القرآن على وجهه نظر المفسر؛ لأنَّ القرآن أعلى كلام بليغ في الوجود، والكلام البليغ لا يمكن ترجمته من لغة إلى لغة محتفظًا ببلاغته؛ لأنَّ البلاغة تتضمَّن إشارات بيانية، ونغمَات فيها موسيقى، وحلاوة ألفاظ، وتآخيها، وجمال أسلوبه، وتساوق معانيه، ولا يتوافر لأحد من الناس أن ينقل كل الصفات