ويسوق بعد ذلك عبد الجبار الأدلَّة على بطلان ذلك المذهب، وإن كان لا يحتاج بطلانه إلى دليل، ويناقش القول الذي قالوا؛ لأنه يلغي اعتبار الألفاظ، وعلى فرض بقائها يجب أن يكون علم الإمام مبينّا لها، وإنَّ قولهم هذا يؤدي إلى أن يلتبس أمر القرآن على الأمة؛ لأنَّ الإمام مستور، وأنَّ القول بأن له باطنًا لا يعرف للناس مناف لقول الله تعالى في وصفه تعالى للقرآن بأنه هدًى للناس، وبأن فيه تبيان كل شيء، وأنَّ الناس مأمورون بالتفكّر في آياته وتدبره، وهكذا.
وفي الحق أنَّ ذلك الكلام لا موضع له من النظر، وقد حكيناه ليتبيِّن أوهام أولئك الناس التي لا سلطان لها من حجة أو برهان، ولكنَّها مخارف الشيطان.
٢٥٦- ويجب هنا أن ننبِّه بأنَّ بعض العلماء يقولون: إنَّ القرآن ظاهرًا وباطنًا، لا بهذا المعنى، بل بمعنى أنَّ القرآن يحوي من العلم ما يخفى على بعض الناس، فأولئك لهم ظواهر الألفاظ، أمَّا ما عدا هذه الظواهر مما تشير إليه من علم فإنه لا يعرف إلَّا خواص العلماء، والراسخون في العلم، ولا تناقض بين الظاهر والباطن.
فالغزالي يسلّم بأنَّ للقرآن ظاهرًا يفهمه كل قارئ للقرآن يعلم بأساليب البيان العربي، مطَّلِع على المأثور عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، وله باطن عريق يفهم من الإشارات البيانية، وما وراء الألفاظ من معانٍ علمية لا يدركها إلا الراسخون في العلوم المختلفة.
والغزالي على هذا ينتهي إلى أنَّه لا يصح الاعتماد على العقل وحده في فهم القرآن، بل لا بُدَّ من الاستفادة بالنقل، ويصحّ الأخذ بالنقل في الأحكام الشرعية، بل يجب الأخذ به، وفي غيرها من النصوص تكون الطريقة المثلى أن يعتمد على النقل والعقل معًا، فإنَّ ظاهر القرآن لا بُدَّ في معرفته من نقل اللغة والسنة إن كانت سنة صحيحة.
وفي ظلِّ النقل الصحيح إن كان في ظل الدلالات اللغوية للألفاظ والأساليب البيانية، والعرف الإسلامي لألفاظ القرآن يعمل العقل في استخراج معاني القرآن الكريم، المتسعة الأفق البعيدة المدى، وفي القرآن آيات كثيرة توجِّه العقل إلى عمق الحقائق الكونية والنفسية، وكلما تفتَّح العقل، وأدرك ظواهر كونية إدراكًا صحيحًا وجد في القرآن ما يشير إليها، وأنَّه كلما اتسع أفق العقل البشري في فهم الكون والحقائق والشرائع اتسع فهمه للقرآن الكريم.
ولعلَّ ذلك هو الذي أشار إليه بعض الصحابة في أقوالهم، مثل قول أبي الدرداء فيما نسب إليه:"لا يفقه حتى يجعل للقرآن وجوهًا" ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن