وقد قالوا أنه صحيح السند، وأن التغني المذكور في الحديث السابق، وهو مصدر غنَّى، وقد فسرنا التغنية في الحديث بأنها ليست الغناء الذي يقصد به القارئ أن يعتبر القرآن أغنية يطرب بها السامعين، إنما التغني عمل نفسي للقارئ التالي للقرآن، بأن يشبع الكلمات ويستمتع بها وبنغمها، ويراجع في كلماته متذوقًا لها، مدركًا لكل معانيها متفهمًا، محبًّا للقرآن غير متململ ولا متكلف، وقد شرحنا ذلك من قبل.
وكتابة القرآن الكريم أمر مطلوب، وقد كان النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- يملي على الكُتَّاب ما حفظ من ربه، وما أن انتقل النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى إلَّا كان القرآن الكريم كله مكتوبًا مسطورًا، ومحفوظًا ومرتلًا متلوًّا تلاوة نبوية.
وإن الأمر بالكتابة لا يدل على الاستغناء بها، فإنَّه إن حفظ الحروف والكلمات لا يروي الترتيل الذي نزل على النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك كان لا بُدَّ من الإقراء على مقرئ؛ ليحفظ المتواتر عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- الذي علّمه ربه الترتيل، كما تواتر القرآن المحفوظ، وكما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: ٩] .
٢٦٨- من هذا كله يتبين أن القراءة الصحيحة تكون بترتيل القرآن الكريم، لما علمه الله تعالى لنبيه في قوله تعالت كلماته:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: ١٨، ١٩] .
وإن الاعتبار في القراءة التي يكون فيها التزيين يثبت بأن يمتلئ قلب القارئ بالخشوع، ويلقي به في نفوس السامعين، فهذا هو القياس المستقيم، ولقد قال النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- كما روينا من قبل: $"أحسن الناس صوتًا من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى".
وإن قراءة القرآن لا تجوز إلَّا بإخراج الحروف من مخارجها، والمد في موضعه، والغنّ في موضعه، والوصل حيث يقتضيه المعنى، والوقف حيث يوجبه المعنى، فذلك هو الترتيل.
ولقد روى حذيفة بن اليمان أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- قال:"اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق، ولحون أهل الكتاب، وسيجيء بعدي قوم يرجِّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم" رواه الترمذي في نوادر الأصول من حديث حذيفة.