"ب" وأيضًا فإنه لو كان العجز لأمر خارجي لا لأمر ذاتي فيه، بأن تكون عندهم القدرة على أن يأتوا بمثله ولكن صرفوا، فإنَّ ذلك يقتضي أن يثبت أولًا أنهم قادرون على مثله، وهم أولًا قد نفوا ذلك عن قدرتهم، وليس لنا أن نفرض لهم قدرة قد نفوها عن أنفسهم، لو كانوا قادرين لكان من كلامهم قبل نزول القرآن عليهم ما يكون متماثلًا في نسقه ونسجه، وله مثل رنينه وصوره البيانية في شعر أو نثر، ولكن المتتبع للمأثورات العربية في الجاهلية والإسلام لا يجد فيها ما يقارب القرآن في ألفاظه أو معانيه أو صورة البيانية.
ولذا لجأ الباقلاني١ في كتابه "إعجاز القرآن" إلى الموازنة بين القرآن وبين المعروف من أبلغ الكلام في الجاهلية، ويقول في ذلك:"ولو كانوا صرفوا على ما ادَّعاه لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عمَّا كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة، وحسن النظم، وعجيب التأليف؛ لأنَّهم لم يتحدوا به، ولم تلزمهم حجته، فإذا لم يوجد في كلام قبله مثله علم أن ما ادَّعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان".
"ج" وإننا لو قلنا: إنَّ الذي منع العرب من الإتيان بمثله هو الصرفة ما كان القرآن هو المعجز، وإنما يكون العجز منهم، ولم يكونوا عاجزين، وإنما يكونون قد أعجزهم الله، ولم يعجزهم القرآن ذاته، وقد كان القرآن هو معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم، والقول بالصرفة ينفي عنه خواص الإعجاز.
وإنَّ معجزات النبيين السابقين ما كان في طاقة الناس أن يأتوا بمثلها في ذاتها، ولم يكن بصرف الناس أن يأتوا بمثلها، فمعجزة العصا، وتسع الآيات التي لموسى -عليه السلام- ما كان العجز من الناس بالصرف، ولكن بالعجز الحقيقي، فلماذا لا تكون معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- كسائر المعجزات، وهي أجَلّ وأعظم.
"د" وإنَّ الله تعالى قد وصف القرآن بأوصاف ذاتية تجعله في منزلة لا تصل إليها معجزات أخرى، فكانت هذه توجب أن يكون إعجازه ذاتيًّا، ولقد قال تعالت كلماته:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا}[الرعد: ٣١] .