للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهناك بجوار المعجزة المادية معجزة هي شيء قائم بذاته ثابت، ولكن الإعجاز فيه أمر لا يدرك بالحس، ولكن يدرك بالدراسة والفحص، وقد يدَّعي بعض من لا يسبر غوره، ويعرف أمره، أنه يستطيع أن يأتي بمثله، وما هو بمستطيع، وأنه في قدرته، وليس بقادر عليه، وهو من غرور النفس، أو ادِّعاء القدرة أو اللجاجة في الأفكار، والمباهتة المناهضة للحقائق.

وإن ذلك يكون في المعجزة التي تكون من نوع الكلام، وهي معجزة القرآن الكريم، فقد كان الغرور يوهم بعض المخاطبين به أن عندهم القدرة على الإتيان بمثله، فكان لا بُدَّ من كشف هذا الغرور، وإزالة تلك الغشية الباطلة، ليتبين وضح الحق، ولذلك طالهم الله تعالى بأن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين في مثل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة: ٢٣] ، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وقرَّر سبحانه أن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: ٨٨] .

٢- وهنا يسأل سائل: لماذا كانت معجزة إبراهيم نارًا موقدة صارت بردًا وسلامًا، ومعجزة موسى -عليه السلام- كانت عصا صارت حية تسعى، وغيرها أيده الله به إلى تسع آيات كلها كانت مادية حسية، وكذلك كانت معجزة عيسى -عليه السلام- إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وإنزال مائدة من السماء، بل كانت ولادته ذاتها معجزة حسية؛ إذ ولد من غير أب، وتكلم في المهد صبيًّا، إذ قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: ٣٠-٣٣] .

لماذا كانت معجزات الأنبياء السابقة حسية على ذلك النحو، ومعجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- معنوية، فقد كانت بيانًا يتلى، وذكرًا حكيمًا، يحفظ فيه بيان الشراع المحكمة الخالدة.

قبل أن نخوض في الإجابة عن السؤال الوارد في موضعه، نقرر أن كون المعجزة مادية حسية تبهر الأعين بادئ الرأي لا يدل على علوِّ المنزلة، أو عكسها، ولكنها حكمة الله تعالى العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، والله تعالى فضل بعض الرسل على بعض، فمنهم من كلَّم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ولكن ليست

<<  <   >  >>