يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة، حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي مرسومة به، ثم يقول -رضي الله عنه:
"هل يقع في وهم أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية، أو أن تكون حروف هذه أخفّ وامتزاجها أحسن، وهل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة إلّا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤاسنتها لأخواتها، وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافها قلقة ونابية ومستكرهة إلَّا وغرضهم أن يعبِّروا بالتمكُّن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأنَّ الأولى لم تلتق بالثانية في معناها، وأنَّ الثانية لم تصلح أن تكون لفقًا للتالية في مؤداها، وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود: ٤٤] فتجلَّى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة إلَّا لأمر يرجع إلى ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض، وإنه لم يعرض لها الشرف إلّا من حيث لاقت الأولى الثانية، والثالثة الرابعة، وهكذا إلى أن تستقر بها إلى آخرها، وأن الفضل نتج مما بينها، وحصل من مجموعها، إن شككت فتأمل: هل ترى لفظة بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت من الفصاحة ما تؤديه، وهي في مكانها من الآية، {ابْلَعِي} واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليه.. ومعلوم أن مبدأ العظمة في الآية في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم كان النداء بيا دون أي.. ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال ابلعي الماء ... إلى آخر ما قال.
ويستدل على أن الكلمة ليس لها فصاحة ولا بلاغة في ذاتها أنَّ الكلمة تروق في موضع، ولا تروق في آخر في كلام الناس، فلو كانت الكلمة إذا حسنت كان حسنها من ذاتها، لاستحسنت دائمًا، وما استهجنت أبدًا.
وينتهي من هذا إلى أنَّ جمال الكلام ليس في توالي ألفاظه في النطق، بل إن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل.
ويسترسل الجرجاني في إثبات أنَّ الكلمات ليست لها فصاحة ذاتية، إنما بلاغتها في اجتماعها مع غيرها في تلاقي المعاني، وأنه ليس للألفاظ ولا للحروف حسن ذاتي منفرد، ولا قبح ذاتي منفرد، إنما حسنها في تلاقيها مع أخواتها في الدلالة وتساوق المعاني، وما تنتجه من صور بيانية، ومراتب أهل البيان في مقدار قدرتهم على اختيار الألفاظ المتآخية في معانيها، ويفهم من كلامه أنَّ النظم لا يلتفت إليه وحده، إنما يلتفت