للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى دعوة الحق، وأنَّ هذه خطوة تكون من بعد أن يبتعد عن الله تعالى ويجافيه، وترى من هذا أنَّ الكلمات من حيث السياق يأخذ بعضها بحجز بعض في نغم مؤتلف، من حيث إن كل معنى يعقبه أخق له مترتب عليه متناسق معه.

ومن مجموع هذه الكلمات يتبيِّن كيف كان أثر النعمة كفرًا بها، وكيف يتدرَّج الكفر بها، حتى يكون البعد التام عن الله، فتكون الطاعة في جانب، ونفس المنعم عليه في جانب آخر، وهو جانب العصيان والضلال البعيد، ثم الطغيان من وراء ذلك.

والصورة البيانية من هذا الكلام قد تضافرت في تكوينها الألفاظ كلها مجتمعة، وكل كلمة صورة بيانية في ذاتها، فإنعام الله تعالى يعطي صورة بيانية للمنعم وفيض نعمه تعالى، والإعراض بتلقيها بجانب الوجه صورة حسية، ثم النأي من بعد ذلك.

هذه صورة المنعم عليه في جحود نفسه، وعدم التفاتها إلى الاعتراف بالنعم وشكرها، مع أنَّ شكر المنعم واجب عقلًا، وهو منبعث من الضمير الطيب الطاهر.

لننتقل من هذه الصورة التي تصورها الكلمات منفردة؛ إذ كل كلمة صورة بيانية رائعة، ثم هي بتضامنها وتلاؤمها تعطي صورة كاملة لنفس كفرت بأنعم الله وبطرت معيشتها واتخذتها سبيلًا لظلم العباد، والكفر برب الناس ملك الناس.

ثم نتجه إلى صورة تلك النفس، وقد أصابها الشر، ولم تنل النعمة، وهنا كلمتان كلتاهما تصور صورة من نزول الضر، وأعقابه في النفس الجاحدة، الكلمتان هما: "مسه الشر" و "كان يئوسًا"، إنَّ المسّ وهو الإصابة بالشر، وإنَّ التعبير بمسٍّ يفيد أن الأصابة بالشر ولو خفيفة تصيب من النفس ما تجعلها يائسة، والشر كل ما لا يرغب فيه، ويطلق على الأمور الضارة حسيًّا ونفسيًّا، وعلى الأمور القبيحة خلقيًّا. والتعبير بالشرِّ هنا يشمل الضار؛ كقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: ١٢] ، ويشمل نتائج الطغيان والعصيان، فيكبه الله تعالى على وجهه، ويشمل العقاب الذي ينزله جزاءً لما ارتكب، وإذا كان قد جحد بنعمة الله تعالى؛ إذ أنعم بها وأعرض، ونأى بجانبه، فإنَّ النفس التي تطغى بالنعمة تذل وتهون وتضعف بسلبها، ويصيبها اليأس المطلق إذا نزلت بها النقمة.

الكلمة الثانية: كان يئوسًا، وهنا نجد كلمة كان الدالة على اللزوم والاستمرار ككان في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: ٩٦] ، وكلمة يئوسًا بصيغة المبالغة الدالة على لزوم اليأس وإيغاله في النفس، وعدم افتراقه عنها، فيكون في حال بؤس مستمرٍّ، ويأس دائم، يكفر إذا أنعم الله عليه، ويصاب بالطغيان، ويكفر إذا اختبره الله تعالى بالشر يصيبه.

<<  <   >  >>