وقد راجعنا من بعد ذلك القاضي عبد الجبار١ في كتابه "إعجاز القرآن"، فوجدناه يقرر فصاحة الكلمة منفردة، ولكن لا تبدو بلاغة معانيها إلا إذا تضامت مع غيرها، فهو يقول:
"اعلم أن الفصاحة لا تظهر في إفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بُدّ مع الضم من أن يكون لكل كلمة ابتداء، وقد يجوز أن تكون هذه الصفة بالمواضعة التي تناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام رابع؛ لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها، ولا بد من هذا الاعتناق في كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض؛ لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه، إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها.
هذا كلام من ذلك الإمام المعتزلي، نهج فيه نهجًا فلسفيًا، ولكنه يؤدي إلى ما قصدنا إلى بيانه، ولعله يريد من المواضعة الوضع اللغوي للكلمة، ويشمل ذلك الأصل اللغوي، والحقيقة العرفية، والمجاز والاستعارة والتنبيه، وغير ذلك، ويريد من الموقع موقع الكلمة من أخواتها من غير تنافر بينهما، بحيث تكون الكلمة لقف أختها، متناسقة متناسبة، ولعله يريد من موقع اختيار الكلمة في وضعها بأن تكون فاعلًا أو مفعولًا أو حالًا، أو فيها اختصاص؛ إذ عبَّر بالإشارة القريبة، وهكذا، فهو لم ينظر إلى بنية الكلمة وحدها، بل نظر إلى موقعها من الإعراب.
وعلى ذلك نرى أنَّ الكلمة البليغة تظهر بلاغتها مع أخواتها، وأنَّ الكلمة قد تكون بليغة في موضع، ولا تكون بليغة في موضع آخر في كلام الناس، أمَّا القرآن فالكلمة تكون بليغة دائمًا؛ لأنَّ منزل القرآن وهو الله تعالى يضع الكلمات في مواضعها، وفي الكلام الذي ينسب إلى الناس قد تكون اللفظة في موضع بليغة، وفي غيره غير ذلك، ولذلك يقول عبد الجبار في تفاوت كلام الناس: "لا بُدَّ في الكلامين اللذين أحدهما يكون أفصح من الآخر أن يكون إنما زادوا عليه بكلِّ ذلك أو بعضه -أي: بالأمور السابقة، ولا يمنع في اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت في معنى تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره" والله أعلم.