هذه الآيات الكريمة بعباراتها وإشاراتها البيانية، وسياقها تدلّ على ابتداء الرسالة المحمدية، وانتهاء أمر الناس في الأخذ بها، وعاقبة من اهتدى، ومن ضلَّ وعصى وغوى.
وإذا نظرت إلى الآيات الكريمات مع ما سبقها وجدتها كلامًا متآخيًا، يندمج بعضه في بعضه في ائتلاف لا نفرة فيه، فالآية قبلها تبين طرق كلام الله تعالى لخلقه، فقد قال تعالى قبل هذه الآيات:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الشورى: ٥١] .
ولنبتدئ بالإشارات البيانية التي وعدنا أن ننبه إلى بعضها، فليست لنا الطاقة إلى إدراك كلها، ولعل غيرنا يدرك بعضًا آخر، ولا أحسب أننا جميعًا نصل إلى كنه إشاراتها.
فهنا نجد كلمة "كذلك" تربط هذه الآيات بما فيها، فهي تدل على المؤاخاة بينهما، وهي تشير إلى علوِّ الله في المعنى الذي قرره "إنه عليّ حكيم" وتشير إلى حكمة اختيار الطريقة في الرسالة المحمدية.
ولننظر في الألفاظ نجد التآلف بينها في النطق والنغم، أفلا نجد ائتلافًا بين كلمة أوحينا، وكلمة روحًا، وكلمة من أمرنا، لا أنبه إلى ما فيه من تآلف في النطق، وتآخذ في المخارج والنغم، فذلك بَيِّنٌ لا يحتاج إلى بيان، وهو يتصل بالذوق والجرس في السمع، فهو يدرك بالحس، ولا ينبه إليه بالمعنى.
ولكن نريد أن ننبه إلى التآخي في المعنى لكل كلمة سيقت، وما تتسع له كل واحدة من معانٍ تتلاقى مع أخواتها وتأتلف، فتعطي صورة بيانية رائعة.
فكلمة أوحينا تدل على أن خطاب الله تعالى لرسله لا يكون جهرًا يعلمه كل واحد، ويسمعه كل إنسان، فهو خطاب لرسول، والرسالة بمجرى الأمور تكون بين المرسِل وبين من يرسله، والتعبير بأوحينا إيطال لقول من يقولون:{أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَة} أو قول من يقولون عن جهل الله ورسالاته الذين يقولون: {لَوَْا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي: نراه ونحسه، ولذا رد الله تعالى قولهم بقوله:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}[الأنعام: ٨، ٩] .
فكلمة أوحينا مع حلاوة لفظها فيها إشارة إلى هذه المعاني في عمومها، ولم يبين نوع الوحي؛ إذ هو على ضروب مختلفة متعددة بالنسبة لخطاب الله تعالى لأنبيائه.