الغليل في رفع هذا الإشكال، والذي يظهر لنا أن الخيرية تارةً تكون بالتخفيف، وتارةً تكون بالتثقيل، فاللَّه جل وعلا ينسخ الأخف بالأثقل لكثرة الأجر، وينسخ الأثقل بالأخف إذا عسر امتثال الأثقل رحمةً وتخفيفًا، كما في قوله:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}[النساء/ ٢٨]، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة/ ١٨٥].
وإيضاحه بمثاله: أن قوله جل وعلا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}[البقرة/ ٢٨٤] لو لم ينسخه اللَّه تعالى بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة/ ٢٨٦] لما نجا من ذلك الحساب أحدٌ؛ لأن ما يخطر في القلوب يعسر التحرز منه جدًّا، فلو استمر تكليفنا بما يخطر في قلوبنا لعسر علينا جدًّا تجنبه ووقعنا في المعصية لا محالة؛ لعسر اجتناب هذا المنهي، وكذلك اتقاؤه {حَقَّ تُقَاتِهِ} لو لم ينسخ بقوله: {مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن/ ١٦] لما قدرنا على الامتثال. فالتخفيف عنَّا به خير لنا، إذ لولاه لوقعنا في المعصية لعسر الاجتناب.
وأما نسخ التخيير بالصوم مثلًا، فلكثرة أجر الصوم، فهو خيرٌ لكثرة أجره، وعامة الناس يقدرون على القيام به من غير تعسر مفرط يكون سببًا لانتهاك الحرمة، وإذا وجد سبب التعسر كالسفر والمرض رفع ذلك التعسر برخصة الإفطار.
والتحقيق في حكمة النسخ أن اللَّه جل وعلا ينيط الحكم والمصالح بالتكليف، فإذا انتهت الحكمة والمصلحة من الخطاب الأول وصارت في غيره، أمر جل وعلا بترك الأول الذي زالت