[منزلة الاستغاثة من العبادة]
والاستغاثة لها منزلة عظيمة من العبادة، والله جل في علاه خلق الخلق لحكمة عظيمة ولمهمة جسيمة، ألا وهي: العبادة، كما قال جل في علاه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦].
وقال الله جل في علاه في بعض الأحاديث وبعض الآثار -وهذه الآثار ينظر في أسانيدها-: (عبدي خلقتك للعبادة فلا تلعب).
وهذه الآثار قد يتسامح في أسانيدها، ويشهد لها كثير من الآثار والأحاديث الصحيحة، فالمهمة الجسيمة التي خلق الله الخلق من أجلها هي العبادة.
وللعبادة ركنان: الركن الأول: غاية الذل، والركن الثاني: غاية الحب، فإن انفك ركن من هذه الأركان، كأن يأتي أحد بالعبادة ولم يكن عابداً لله جل في علاه، فإنها لا تقبل منه، بل لا بد أن يأتي بالركنين تامين.
والاستغاثة من الركن الأول، بل هي قلب الركن الأول، بل هي أساس وأصل الركن الأول، فالاستغاثة هي الذل التام لله جل في علاه، فلما كانت هذه منزلة الاستغاثة من العبادة سارع إليها أخيار الناس وأفضل البشر على الإطلاق وهم الأنبياء، قال الله تعالى مبيناً تضرع وتذلل واستغاثة أنبيائه وأصفيائه من خلقه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:٨٣ - ٨٤].
وقال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:٨٧] متمسكناً متضرعاً مستغيثاً بالله جل في علاه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧].
وإبراهيم عندما أضرموا النار وألقوه فيها استغاث بربه جل في علاه وقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل).
فهذه من أجل العبادات، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم له الحظ الوافر والنصيب الأكبر في هذه العبادة، ففي كل المواقف ترى النبي صلى الله عليه وسلم يتذلل لربه جل في علاه، ففي غزوة بدر سقط الرداء من على كتف رسول الله وهو يتذلل ويستغيث بربه جل في علاه، ويقول: (اللهم وعدك الذي وعدتني، اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدت).
ولما اشتد الجدب على الناس، ودخل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بالناس، فقال له: (هلك العيال، أو قال: هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم مستغيثاً بربه: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا).
فالعبد الكامل في العبودية هو الذي يضع خده على التراب متذللاً لربه جل في علاه، متضرعاً عندما تنزل به الملمات وتلتئم عليه الكربات، فيتذلل لربه جل في علاه مستغيثاً به لا مستغيثاً بغيره، وهذه هي منزلة الاستغاثة من العبادة، وأصل ركن العبادة التذلل، والاستغاثة هي أم التذلل، فهذه هي منزلة الاستغاثة من العبادة.