[القائلون بجواز التبرك بآثار الصالحين وأدلتهم الأثرية والنظرية]
نظر جمهور أهل العلم إلى الأدلة السابقة التي فيها تبرك الصحابة بآثار النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه الأدلة أيضاً تدل على جواز التبرك بآثار الصالحين.
والذي أعلنها صراحة النووي في شرح صحيح مسلم، ثم تعبه الحافظ ابن حجر في الفتح، ثم الإمام الشوكاني، فقالوا جميعهم: بجواز التبرك بآثار الصالحين، واستدلوا بما سبق من الأدلة التي تدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وكادوا يقتتلون على وضوءه، وتبركوا بثياب النبي صلى الله عليه وسلم، وتبركوا بكل شيء من رسول الله، بشعر النبي، بالماء الذي نبع من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم.
بل قالوا: إن هناك أدلة أخرى كثيرة، منها: قول الله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:٢٤٨]، فهؤلاء كانت الآية لهم أن يأخذوا آثار الأنبياء ويتبركوا بها، ولذلك قال النووي: فهذه الآية فيها دلالة واضحة على جواز التبرك بآثار الصالحين، فإذا أخذت عمامة شيخك أو عصاه أو قميصه لتتبرك بها، جاز لك ذلك.
واستدلوا أيضاً بدليل آخر: وهو حديث في الصحيحين، أن عتبان بن مالك رضي الله عنه بعدما عمي لم يستطع أن يذهب إلى المسجد، وكان يؤم الناس، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بيني وبين قومي هذا النهر، وإن الأمطار تأتي فتعوقني عن الذهاب إليهم لأؤمهم، فصل عندي يا رسول الله! في مكان اتخذه مصلى، فهو أراد أن يتبرك بالمكان الذي سيصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليه وكان قد صنع له طعاماً، فأراد أن يطعم أولاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، أين تريد أن أصلي؟ فأشار إلى مكان في ناحية الدار، فتقدم صلى الله عليه وسلم إلى المكان فصلى فيه، فاتخذ عتبان بن مالك ذلك المكان مصلى؛ تبركاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد عقب الحافظ على هذا الحديث فقال: هذا فيه دلالة على جواز التبرك بآثار الصالحين.
كذلك من الأدلة التي استدل بها الجمهور على جواز التبرك بآثار الصالحين: حديث عائشة وأنس رضي الله عنه عنهما، أن كثيراً من الصحابة كانوا يأتون بالأطفال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكهم، ويدعوا لهم بالبركة.
قالوا: وهذه دلالة على أن المولود لا بد لمن يحنكه أن يكون صالحاً، وحتى ينزل في بطن المولود أو الطفل ريق الصالح.
واستدلوا أيضاً بما ورد عن الشافعي رحمه الله أنه رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه في المنام وقال له: بشر أحمد بن حنبل بالرفعة، وليصبر على بلوى ستأتيه، والبلوى كانت محنة القول بخلق القرآن، فبعث بهذه البشرى لـ أحمد مع الساعي، وقال لساعيه: وائتني بغسول ثيابه، فجاءه الساعي بهذا الغسول، فأخذه الشافعي واغتسل به تبركاً بـ أحمد بن حنبل لتقواه وورعه.
فهذا الدليل الذي ورد عن الشافعي ظاهر في جواز بالتبرك بآثار الصالحين، أما الأدلة الأولى فكلها وردت في التبرك بآثار النبيين، كموسى وهارون عليهما السلام، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال المجيزون للتبرك: ونحن نقيس الصالحين عليهم، فهم ما تبركوا بهم إلا لصلاحهم وتقواهم وقربهم من الله جل في علاه، فهذا تبرك بالصالحين.
هذا قول الجمهور وأدلتهم من الأثر ومن النظر، وكما قلنا التماس البركة يكون في الصلاح وأهل التقى والورع، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:٩٦]، وأيضاً ما من مترجم يترجم لعلمائنا، إلا ويقول: فلان بركة، فـ السخاوي في ترجمته للنووي قال: إنه بركة.
وهذا صحيح، فإن النووي بركة، لكن سنبين ماذا يعني هذا القول.
وقالوا أيضاً: إن من الأدلة كذلك: أن الصلاح إذا وجد في مكان وجدت معه البركة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة المرء أربع، وذكر منها: المرأة الصالحة)، فالمرأة الصالحة بصلاحها في بيت زوجها تأتي له بالبركات، وقول الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:١٣٢]، فإن البركة موجودة في هذا البيت بسبب الصلاة.
إذاً: أهل الصلاح يكون معهم البركة، لكننا نقول: هذا الكلام فيه نظر وإن كان قول الجماهير، وقول الفحول من الشافعية كـ النووي وابن حجر وإمام الحرمين بل هو قول كثير من الشافعية قد توسعوا كثيراً في مسألة التبرك، فهم حين يصنفون في مسائل الحج يقولون: ومن آداب الحج أن يسافر من مكة إلى المدينة ليتبرك بتراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والخطيب الشربيني صاحب كتاب (الإقناع) و (معنى المحتاج) من الأئمة في هذه المسألة.