[استعانة الأنبياء والصالحين]
إن الاستعانة لب العبادة، لذا قال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية: هي نصف الدين؛ لأن الدين نصفان: نصفه عبادة، ونصفه استعانة على العبادة، وقد استقى شيخ الإسلام هذا الكلام البارع من قول الله تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:٥] بهذا الشطر الأول.
((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) أي: أننا لا نستطيع عبادتك إلا بالاستعانة بك، ولذلك قال: الاستعانة نصف الدين، أو هي شطر الدين.
والاستعانة لها منزلة عظيمة جداً، لأنها والتوكل شيء واحد أو صنوان، والخلاف بينهما طفيف، والعبد بالاستعانة يدخل في غمار التوحيد، فتفتح له أنوار المعارف في آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ لأن العبد الذي يستعين بربه أولاً لا بد أن يكون قد استيقن في قلبه أن الرب الذي هو فوق العرش ويعلم ما نحن عليه هو القادر المقتدر القدير، الرب الجليل الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فبيده قلوب العباد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) فهو دائماً كان يدعو: (اللهم يا مقلب القلوب) ويستعن بالله بالدعاء: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
ويعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا شيء يتحرك في الكون إلا بإرادة الله جل في علاه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، فلما استيقن هذا اليقين في ربه، دعاه هذا اليقين إلى أن يحسن الظن بالله، ويستعين بالله جل في علاه، وهذا هو دأب الصالحين، ودأب خيار الناس، ودأب الصلحاء من البشر الذين استعانوا بربهم على إقامة الدين، وهؤلاء البشر هم الأنبياء والمرسلون الذين استعانوا بربهم، وأجلوا لنا هذه العبادة الجليلة.
فهذا خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام كان يقول: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨]، وأيضاً قال شعيب أو صالح: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس:٧١]، وأيضاً قال نوح: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:٧١] فهو عليه السلام قد صدر كلامه بأنه توكل على الله جل في علاه، واستعان بربه جل في علاه.
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يكون في حياته اليومية أنه يستعين بالله في نشر دين الله جل في علاه، وكان دائماً يقول كما في الترمذي بسند صحيح: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاءه فقال: (لا تقصر علي، أعطني نصيحة لا أسأل عنها أحداً بعدك.
قال: اجعل لسانك رطباً بذكر الله)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا تراه إلا وهو يحرك لسانه ذكراً لله جل في علاه، حتى أنه إذا دخل الخلاء حرك لسان قلبه وليس العضو المعروف، وعند خروجه كان دائماً يقول: (غفرانك).
وقد أولها بعض العلماء فقال: إنه كان يقول: إنه ليغان على قلبي.
أي: يجد مشقة، لأنه لم يذكر اسم الله جل في علاه عند قضاء الحاجة، مع أن قلبه يستحضر ذكر الله جل في علاه.
(اللهم أعني على ذكرك وشكرك) إذ الشكر من أهم العبادات التي يتقدم بها العبد لله جل في علاه، وإن ربك يحب من العبد أن يشكره كما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل الأكلة أو شرب الشربة أن يحمد الله عليها).
وإن الله قد امتن بالمدح على نوح عندما قال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:٣]، فما من نبي إلا وهو يتذلل لله خضوعاً وشكراً لعبادته، (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وهذه فيها لفتة جميلة وهي: أنه لم يقل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وعبادتك.
وإنما قال: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، ولذلك قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢]؛ لأن حسن العبادة أن يؤدي العبد الإخلاص التام لله جل في علاه قدر استطاعته، وبعد هذا الإخلاص والعبادة التامة يستغفر الله عليها، لذلك فما من نبي وما من صالح إلا قد استعان بالله على طاعة الله، وترى أن العبد المتيقن بربه، الفقيه الأريب المسدد الموفق يعلم أنه ما من نعمة وما من عبادة وفق فيها وسدد إلا بالله، قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:٥٣] وأجل هذه النعم الذل لله جل في علاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (قال الله تعالى: يا عبادي! من وجد خيراً فليحمد الله، ومن جد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فكل صالح وكل عبد بر لله جل في علاه يستعين بالله على عبادة الله جل في علاه، ولا يمكن لعبد أن يتقرب إلى ربه إلا بالله جل في علاه, ولا يمكن لطالب علم أن يطلب العلم إلا بالله، ولا يمكن لمستغفر أن يستغفر إلا بالله، ولا يمكن لمجاهد أن يجاهد إلا بالله جل في علاه، فإذا أقفل الله الباب عن العبد، ولم يوفقه، فلا يمكن له أن يتعبد لله جل في علاه، وإذا فتح الله جل وعلا الأبواب على مصراعيها لعباده، فاستعانوا به وصلوا إلى ربهم جل في علاه، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:٥ - ٩].