وفي هذا الدرس إن شاء الله سنشرح هذا القسم من كتاب نافع جداً، ألا وهو:(الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) للعلامة الفقيه المجتهد المحدث الأصولي محمد بن علي الشوكاني، وأنا أركز هذا على الوصف لأبين أن رفعة القوم هي كما بين ابن رجب في القواعد وغيره، حيث قال: أشرف الناس على الإطلاق هم أهل العلم، وأهل العلم طبقات، وأول هذه الطبقات وأرفعها هم الفقهاء المحدثون الذين انشغلوا بعلم الفقه وعلم الحديث، ولذلك ترى أن أرفعهم وأقواهم ورأسهم هو الإمام الشافعي، فقد كان يقول الإمام أحمد عنه: رأس السنة أو ناصر السنة هو الإمام الشافعي.
فكان الشافعي وأحمد ومالك ممن انشغلوا بالفقه والحديث، فكانوا أرفع الناس، وكان خاتمة هؤلاء هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد سبقه ابن دقيق العيد؛ لأن ابن دقيق العيد أيضاً كان محدثاً فقيهاً أصولياً، فأقول: وعلى الدرب والركب كان إمامنا ومصنف هذا الكتاب الذي نتحدث عنه وهو كتاب الإمام العلامة الفقيه المجتهد المفسر المحدث الأصولي البارع محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، ثم الصنعاني، وقد ولد في ذي القعدة سنة (١١٧٢هـ) باليمن، فحفظ القرآن الكريم وجوده، ثم حفظ عدداً كبيراً من المتون والمختصرات في فنون متعددة، وهنا أقول: لابد لطالب العلم أن يبدأ بالقرآن، فهذا هو دأب الصالحين ودأب علماء السلف، فقد كان الأعمش وغيره في مجالس العلم إذا جلسوا في مجلس التحديث وجاء الذي يكتتب -أي: أنه حضر وحمل عن هذا العالم- يسأل أولاً: هل حفظت القرآن؟ فإذا قال: لا.
قال: ارجع فاحفظ القرآن ثم ائت مجالس الحديث، فإذا حقق القرآن جاء فقيل له: هل تعلمت المواريث؟ والاهتمام بهذا العلم نادر، ولهذا كان أول العلوم اندراساً هو علم المواريث، فإذا قال: لا، قال: وتجلس مجلس التحديث؟! ارجع فتعلم علم المواريث ثم ائتنا، فيرجع فيتعلم علم المواريث، ثم يجلس في مجلس التحديث، ولذلك ترى أنه ما من فقيه أو محدث أو عالم تقرأ في ترجمته في سير أعلام النبلاء أو غيره إلا ويقول: حفظ القرآن صغيراً، حفظ القرآن حدثاً، فكانوا يهتمون أولاً بالقرآن، وقد كانت مصر عامرة بالخير في الكتاتيب، فكان أهم شيء للولد الصغير أن يذهب ليحفظ القرآن ويختمه، ثم بعد ذلك يظهر نبوغه بعد حفظ القرآن، وإمامنا أيضاً من الصغر ومن حداثة السن كان يحفظ القرآن، ثم كان يحفظ المختصرات في فنون متعددة.
هذا الإمام العلم -بإيجاز- كان إماماً بارعاً في علم الحديث، وكان هو الغالب عليه، ولذلك له شروحات كثيرة في علم الحديث، أقواها وأرفعها هو:(نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار)، وهو كتاب بديع جداً؛ ترى فيه قوة عارضة هذا العالم الرباني، وهذا الفقيه المحدث الأصولي، فتراه يأتي بالأقوال ويبين لك، لكنه كثيراً ما يتبع الحافظ ابن حجر، وكثيراً ما ينقل عن الحافظ ابن حجر؛ لأن بعضهم اتهم الشوكاني أن كل كتبه حجم مصغر من كتب الحافظ ابن حجر، وهذا سوء أدب مع الشوكاني، فإن الشوكاني كان مجتهداً بارعاً، بل كان اجتهاده اجتهاداً مطلقاً لا اجتهاد مذهب، لكنه كان كثيراً ما يعول في التصحيح والتضعيف على الحافظ ابن حجر وينقل كثيراً من أقواله.
المقصود: أن من أروع ما كتبه في فقه الحديث هو كتاب (نيل الأوطار)، وهو من أوسع الكتب، حتى إنه بعدما صنف هذا الكتاب اشتدت همته على أن يشرح كتاب صحيح البخاري، فلما فتح (فتح الباري) ووجد البحر الذي لا ساحل له للحافظ ابن حجر قال الكلمة المشهورة: لا هجرة بعد الفتح.
أي: لا أحد يستطيع أن يتقدم بين يدي الحافظ ابن حجر.
وله أيضاً كتاب ماتع في أصول الفقه، وهذا الكتاب وإن كان يعتبر كتاباً مقارناً في الأصول وليس أصول مذهب، لكنه من أمتع الكتب التي يمكن أن يطلع عليها طالب العلم في أصول الفقه، واسم هذا الكتاب:(إرشاد الفحول)، وقد سماه بذلك من أجل أن يبين أن هذا الكتاب من عظم تصنيفه أنه للفحول فقط.
وله كتب أخرى في الفقه منها كتاب:(السيل الجرار) وهذا الكتاب يتكون من أربعة أجزاء، وهو كتاب ماتع جداً، لكن أخذ على الشوكاني أنه كان فيه شيء من الميول لـ علي بن أبي طالب، فكان يرجح ما رجحه أبو حنيفة وغيره، وكان يرى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أفضل من عثمان، وهذا مخالف لما أجمعت عليه كلمة المهاجرين والأنصار، وهو ترتيب الأربعة في الفضل بنفس ترتيب الخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.