[التبرك المشروع]
القسم الثاني التبرك المشروع، فمن سماحة الشرع الحنيف أنه إذا سد باباً على الناس فتح عليهم أبواباً.
فالبركة تأتي بأقوال وأفعال وأزمنة وأماكن، ومن هذه الأقوال: تلاوة كتاب الله جل في علاه، فالبركة كل البركة في ذكر الله جل في علاه، وفي تلاوة قرآن الله جل في علاه، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:٢٩].
ومن هذه البركة: ما قاله ابن مسعود في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن، فإن لكم بكل حرف -هنا البركة- حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
فإذاً: التماس البركة في تلاوة القرآن، وأخص بذلك سورة البقرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في سورة البقرة: (اقرءوا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)، أي: السحرة، فالبركة كل البركة في سورة البقرة.
وأيضاً من التماس البركة في الأقوال: ذكر الله جل في علاه، والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس العلم، فالبركة كل البركة عند ذكر الله والتذاكر لكلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك: حديث ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي -بركة الذكر في النفس- ومن ذكرني في ملأ - هنا البركة - ذكرته في ملأ خير منه) وهو ملأ الملائكة.
ومن بركة مجالس الذكر: حديث: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
فإذاً: بذكر الله جل في علاه، وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تحصل البركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً)، فهذه بركة ليس بعدها بركة، وأشد من ذلك بركة أن تستقبل دعاءك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتؤخر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الدعاء، فحري أن يجاب لك.
بل إذا جعلت كل دعاءك صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم -كما بينه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي- فإنه يغفر ذنبك ويفرج همك، ويأتيك الله بما تحب وبما تشتهي.
أيضاً: التبرك بالأفعال، ومن أهم هذه الأفعال التي يمكن أن يتبرك بها المرء: الصلاة، وكثرة السجود، والتذلل لله جل في علاه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: (تمن، قال: أتمنى مرافقتك في الجنة، فقال له رسول الله: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فأي بركة توازي هذه البركة، وأنت تكثر من السجود فترتفع درجة في الجنات حتى توازي درجة النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
وأيضاً من هذه البركة: ما ورد في السنن أن أبا ذر دخل على بعض التابعين، فصلى كثيراً ولم يَعُدْ ثم سلم، فقال بعضهم: ما بال هذا الرجل صلى كثيراً ولا يعرف خرج من صلاته على وتر أم على شفع؟! فلما سمع ذلك قال: ألا تعرفوني؟ قال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما سجد عبد لله سجدة، إلا رفعه الله بها درجة، وحط بها عنه خطيئة)، وهذه بركة ليست بعدها بركة.
وكذلك الصوم: فمن أكثر من الصوم فتحت له أبواب الخير الكثيرة.
والأزمنة كذلك: فهناك أزمنة منها: يوم عاشوراء، وفيه بركة ليست بعدها بركة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحتسب على الله أن يكفر سنة ماضية)، فصوم عاشوراء فيه بركة أيما بركة، وهي: تكفير كل المعاصي التي في السنة الماضية، وعلى خلاف بين العلماء، هل هذا يشمل الكبائر أم الصغائر؟ لسنا بصدد التفصيل في ذلك، لكن الراجح أنه يشمل الصغائر فقط.
وكذلك يوم عرفة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أحتسب على الله أن يكفر سنة ماضية وسنة مستقبلية).
ومن هذه الأوقات: وقت السحر، فخاب وخسر من ضيع وقت السحر، وقت السحر وما أدراك ما وقت السحر؟! وقت السحر عندما يخيم السكون، والليل قد أقبل وغارت نجومه، والله نازل في السماء يستقبل عباده، نزولاً يليق بجلاله وكماله، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستشف فأشفيه؟ وقد قال الله مادحاً عباده المؤمنين بقوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٧ - ١٨].
فأي بركة في هذه الأوقات، فهذه أوقات مباركة لا بد للإنسان أن يستغل فيها هذه البركة، ويدعو الله جل وعلا فيها.
أيضاً من هذه الأوقات: يوم الجمعة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس) -وهو خير يوم على الإطلاق- فيه خلق آدم، وفيه أخرج من الجنة، وفيه تقوم الساعة، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا من بركة يوم الجمعة- (فيه ساعة لا يسأل عبد فيها الله جل في علاه إلا أجابه).
ومن بركة الجمعة: أن من مات فيها كانت علامة على حسن الخاتمة.
ومن الأزمنة: البكور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) فمن أراد العمل بعد الفجر، فالبركة كل البركة بعد الفجر، ولذلك كان الصحابة لا ينامون بعد الفجر إلا من شيء.
ومن الأماكن التي يتبرك فيها أو تتخذ وسيلة لالتماس البركة بالاجتهاد بالعبادة فيها: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى والمسجد الحرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في مسجدي هذا بألف صلاة في أي مسجد آخر إلا المسجد الحرام، وصلاة المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن).
ومن أنواع التبرك المشروع: التبرك بالأطعمة وبالمأكولات، والهيئات في المأكولات، ومن هذا العسل ففيه بركة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيه شفاء للناس) وكذلك حبة البركة هي بركة، فهي شفاء من كل داء.
وأيضاً: ماء زمزم، ويا للخسارة لمن شرب ماء زمزم ولم يضمر في قلبه يقيناً في أمر معين! سواء مرافقة النبي، أو نصرة الدين، تستيقن في ربك أنك كلما شربت ماء زمزم كلما علوت.
فـ ابن حجر علم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وهذا عموم منه صلى الله عليه وسلم، قال: فشربت ماء زمزم لأصل إلى حفظ الذهبي، فما زلت أشرب في هذه النية حتى ارتقيت على حفظ الذهبي، فوجد نفسه أحفظ من الذهبي.
يا للروعة! ويا لليقين في التعامل مع الله جل في علاه! أيضاً: يقول أبو بكر بن العربي في ماء زمزم: شربت ماء زمزم للعلم وللإيمان، فملأني الله علماً وإيماناً، ويا ليتني شربته للعمل مع العلم.
فماء زمزم ماء مبارك طعامه، وهو شفاء للسقم، وأيضاً فيه بركة في العلم وفي غيره.
ومن الأطعمة التي فيها البركة: اللبن، فقد أتي النبي صلى الله عليه وسلم بكوب من اللبن، فقال: (هذا البيت فيه بركة، أو بركتين)، فدل على أن اللبن من بركات البيت.
وأيضاً: علمنا دعاء عند شرب اللبن، فنقول: (اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه بركة) فهذه بركة في اللبن.
وأيضاً: البركة في زيت الزيتون؛ لأنها شجرة مباركة، وكان النبي صلى الله عليه سلم يبين أن نعم الإدام هذا الزيت، والبركة فيه بأن تأكل منه وتدهن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدهن كعب رجليه، أو أمر بالدهان في كعوب الأرجل إن كانت فيها مرض معين أو تشققات، فالتمس البركة بالشفاء بزيت الزيتون، أو بزيت البركة، فإن فيه البركة.