[القائلون بعدم جواز التبرك بآثار الصالحين غير النبي وأدلتهم]
وقد خالف بعض المحققين من جماهير أهل العلم في التبرك، وقالوا: لا يجوز التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، ولا يجوز بحال من الأحوال قياس غير النبي صلى الله عليه وسلم عليه، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة منها: الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، فالصحابة تبركوا بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، بالجلوس معه وغير ذلك، ولكن بعدما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأينا عمر يأتي ويتبرك بـ أبي بكر، مع أن أبا بكر هو أفضل الصحابة، بل هو أفضل الناس بعد النبيين والمرسلين على الإطلاق، ومع هذا لم يؤثر عن عمر ولا عثمان ولا علي أنهم تبركوا بـ أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، مع أنهم كانوا يعلمون ما لـ أبي بكر من البركة، فقد كانوا يجلسون معه فيأكلون الطعام، فكان الطعام يكثر في أيديهم ولا ينقص من بركة أبي بكر، بل أسيد بن حضير رضي الله عنه يقرر بركة أبي بكر وبركة آل أبي بكر، وذلك عندما ذهبت عائشة رضي الله عنها وأرضاها في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانفرط العقد عليها، وكانت قد استعارت هذا العقد من أسماء لأجل أن تتزين به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس ليس معهم ماء، وليسوا على ماء، ففي الليل قالت: يا رسول الله! انفرط العقد، أي: ضاع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان خير الناس مع أزواجه، فهو القائل: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، فأمر الناس بالمكوث، فذهب الناس يكلمون أبا بكر في عائشة، وقالوا: أما رأيت ما فعلت عائشة؟ قال: وما فعلت؟ قالوا: أجلست رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلست الناس وليسوا على ماء ومن المعلوم أن آية التيمم لم تنزل بعد، فماذا يفعلون وكيف يصلون؟ فذهب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه إلى عائشة رضي الله عنها، تقول وهي تقص هذه القصة: (دخل أبو بكر - ولم تقل: دخل أبي، وكانت معذورة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على فخذي، فقال لها: يا لكع! -أي: يا لئيمة- أجلست رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلست الناس وليسوا على ماء، قالت: فغمزني، أو قالت: وكزني في خاصرتي وما تحركت؛ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ثم خرج أبو بكر بعدما عنفها وشد عليها، وفي الفجر أنزل الله وحياً يتلى إلى يوم القيامة؛ آية التيمم في سورة المائدة، فقال أسيد بن حضير لـ أبي بكر: ليست هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر).
فآل أبي بكر كلهم بركة، فـ أبو بكر بركة، وعائشة وأسماء بركة، وعبد الله، وكل أبناء أبي بكر بركة، ومع هذا لم نجد أحدا ًمن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يتبرك بأثر من آثار أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
فهذا عمر، وهو أفضل الصحابة أجمعين بعد أبي بكر، لم نر أحداً فعل ذلك معه بعد موت أبي بكر، ولم نر أحداً فعل ذلك مع عثمان ولا مع علي رضي الله عنه.
إذاً: من هنا تأتي القاعدة المهمة ((لو كان خيراً لسبقونا إليه)).
الدليل الثاني: قالوا: من مقاصد الشريعة: سد الذرائع، والقاعدة الفقهية المتفق عليها تقول: الوسائل لها أحكام المقاصد، فقالوا: والتبرك بذوات الصالحين وسيلة للغلو فيهم، ومعلوم بينا أن أول شرك حدث في البشرية كان بسبب الغلو في الصالحين، وذلك عندما غلا قوم نوح عليه السلام في ودٍ وسواع ويغوث ويعوق ونسراً، وقالوا: هؤلاء رجال صالحون، فلا بد أن نجعل لهم تماثيل حتى نتذكرهم ونقتدي بأفعالهم وعبادتهم وصلاحهم وورعهم، ثم تدرج الغلو حتى اعتقدوا فيهم ما لا يعتقد إلا في الله، ثم عبدوهم من دون الله جل وعلا، وهذا الذي قرره ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
فإذاً: الغلو في الصالحين ذريعة كبيرة لاعتقاد الشرك فيهم، وللاعتقاد فيهم ما لا يُعتقد إلا في الله جل في علاه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم حذر الأمة من الوقوع في مثل هذا أيما تحذير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله).
وأيضاً لما دخل عليه القوم، فقالوا له: (أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان) أي: لا يجري بكم الشيطان، فيجعلكم تغلون فيَّ وترفعوني فوق درجتي.
أو كما قال قائلهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم.
فهذا غلو في أعظم الخلق صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، ولذلك عقب المحققون وقالوا: هذا الرجل من الجنون بمكان؛ فلانه ما ترك لله سبحانه وتعالى شيئاً، بل أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء.
إذاً: التبرك بذوات الصالحين هو وسيلة للغلو فيهم، وقد غلا بعضهم في الإمام أبي حنيفة، حتى أصبح بعض أصحابه يسبون أبا هريرة رضي الله عنه، لينافح عن مذهبه، وعن أقواله التي فيها من الخطأ الكثير، والمصادمة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتون إلى الحديث ويقولون: هذا من رواية أبي هريرة، وقد كان يروي ما لا يعقل، فهذا سب في أبي هريرة رضي الله عنه بسبب الغلو في بعض الصالحين.
والغلو هذا قد يكون سبباً في هدم الإسلام، وذلك كما حدث لغلاة الشيعة، فإنهم غلوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى أوصلوه إلى مرتبة الإلهية، وحتى أنه بعدما حرقهم بالنار قالوا له: لا يحرق بالنار إلا رب النار، أي: أنت إلهنا، والعياذ بالله، ووضعوا الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الغلو في آل البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما أوليائي المتقون)، أي: لو كان الواحد من آل البيت من الفسقة، فإنه ليس من أولياء النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له التوقير ولا التعظيم ولا الاحترام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أغني عنكم من الله شيئاً).