[أمثلة على التوسل المشروع من الكتاب والسنة]
قال الله تعالى حاكياً عن امرأة عمران أنها قالت: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:٣٥]، وذكر عن زكريا أنه دخل على مريم وقال {أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:٣٧ - ٣٨]، وأيضاً ذكر الله لنا عن قصة يونس ذا النون أنه لما {ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧].
وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المرء عندما يحس بوجع في رأسه أو في صدره، أو في أي مكان من جسده أن يضع يده عليه ويقول: (أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد وأحاذر) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إذا دخل العبد مكاناً فقال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لا يضره شيء) ولذلك كان القرطبي يقول: كنت أعض بالنواجذ على هذا الذكر، فطلبني الجن فقلت: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، فمروا من أمامي ولم يروني، وهذه المسألة تحتاج إلى يقين بالله جل في علاه.
فهذه الآيات والأحاديث فيها أنواع من التوسل المشروع، فقوله تعالى عن امرأة عمران: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:٣٥] فيه أنها توسلت بين يدي دعائها بالنذر، فقالت {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:٣٥].
والصحيح إن النذر عبادة، وهل هو محمود أو مكروه؟ الصحيح أن أقل درجاته أنه مكروه، وإذا وفى به المسلم فهو محمود.
وهذا النذر كان فيه أدب مع الله، فلم يكن معلقاً، حيث نذرت أن الله إن أعطاها ذكر أو أنثى فإنه لله، فقالت: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران:٣٥].
وكان دعاؤها هو: فتقبل مني، وتوسلها كان بإسمين من أسماء الله: السميع العليم، قالت {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:٣٥].
والسميع يتضمن صفة السمع، والعليم يتضمن صفة العلم، وهما من صفات الكمال.
ثم توسلت أيضاً بحالها، وكأنها تقول: بما أنك تسمعني وتعلم بحالي فتقبل مني.
وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:٣٧ - ٣٨].
في هذه الآية توسل بصفة السمع في قوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:٣٨]، وفيها أيضاً أن زكريا نظر فوجد عند مريم عليها السلام ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء، وهذا فعل من أفعال الله، فلا يستطيع أن يفعل ذلك إلا هو، وما دام الله يفعل ذلك وهو في حيز البشر مستحيل، فإن زكريا عليه السلام دعا الله وتوسل إليه بفعله المستحيل -وهو الرزق الذي أنزله على مريم- أن يرزقه الولد، وهو كبير السن وامرأته يائسة، كما رزق مريم من ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء، وهذا توسل بأفعال الله جل في علاه.
وقوله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧]، فيه أن يونس عليه السلام توسل إلى الله بخمسة أنواع من التوسل المشروع: النوع الأول: توسل إلى الله بحاله ضمناً فهو في الظلمات الثلاث، فكأنه يتضرع بحاله إلى ربه أن ينقذه مما هو فيه.
الثاني: توسل بأعماله الصالحة، وهو أنه قال: لا إله إلا أنت، فأقر بتوحيد الله، والإقرار بالتوحيد من أفضل الأعمال الصالحة التي يتوسل بها العبد إلى ربه، ولذلك قال العلماء: أفضل ثناء على الله بما هو أهل له: توحيده، بأن يقول العبد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
الثالث: توسل بحاله، وهو الإقرار بالظلم.
الرابع: توسل بقوله: (سبحانك)، وهذا أيضاً من الأعمال الصالحة؛ لأن التسبيح تنزيه الله عن كل نقص.
الخامس: توسل بذات الله جل في علاه بأسماء الله الحسنى، فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧]، وإن كان توسله بالأسماء الحسنى ليس ظاهراً، إلا أنه عندما قال: (لا إله) أثبت اسم الإله، والإله إذا انفرد يدخل معه الرب، فكأنه توسل بربوبية الله جل في علاه.
ومن التوسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل -وهذا دأب الصالحين- استفتح صلاته فقال: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، اهدني لما اختلف فيه من الحق، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) ففي قوله: (اللهم رب) توسل بذات الله أو بربوبيته جلا في علاه، وكأنه يقول: اللهم إني أقررت بأنك رب، أو بأنك الرب الخالق الرازق المدبر، وتقدر على كل شيء بقولك كن فيكون.
وقوله: (إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) توسل بفعل الله، وهو هدايته جل وعلا لأوليائه إلى الصراط المستقيم، فكأنه يقول: كما فعلت بأوليائك كذلك فافعل بي، (وهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك).
ومن التوسل: التوسل باسم الله الأعظم، وهو الله.