[أقوال العلماء في الشافعي]
مكانة الشافعي بين علماء الإسلام عظيمة، وسأختصر أقوال أهل العلم فيه، والشافعي له منة على كثير من أهل الإسلام، فمن هذه الأقوال: قال الحميدي: سمعت مسلماً بن خالد يقول للشافعي: قد والله آن لك أن تفتي، والشافعي ابن خمس عشرة سنة.
وهذا يحيى بن سعيد القطان الذي هو نقاد فحل من أساطين أهل الحديث، الذي كان يجلس أمامه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل كالتلاميذ، وقد كان شديداً في الجرح والتعديل، قالوا: إذا وثق أحداً فعض عليه بالنواجذ، قال يحيى بن سعيد القطان: أنا أدعو الله للشافعي في صلاتي منذ أربع سنين، وقال حين عرض عليه كتاب الرسالة: ما رأيت أعقل ولا أفقه من الشافعي، وعبد الرحمن بن مهدي هو الذي طلب من الشافعي أن يكتب الرسالة، وكان من أئمة أهل الحديث، قال العلماء: إذا اتفق ابن مهدي والقطان على توثيق رجل فلا تسأل عنه أحداً بعد ذلك؛ لأنه قد مر وجاوز القنطرة، يقول ابن مهدي إمام عصره في الفقه والحديث حين جاءته رسالة الشافعي: ما أصلي صلاة إلا وأدعو للشافعي؛ لأنه بين له العام من الخاص والمطلق من المقيد والمجمل من المفسر، وبين له كيف يجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض.
وقتيبة بن سعيد ثقة ثبت من رجال الصحيحين قال: مات الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن، والثوري كان بحراً في الحديث، بل كان أوسع حفظاً من الشافعي بالإجماع، وبموت أحمد بن حنبل تظهر البدع، فهو إمام أهل السنة، قال بعضهم: إن الله حفظ الدين بـ أبي بكر في الردة، وبـ أحمد بن حنبل في المحنة، وهي محنة خلق القرآن.
ومعنى قول قتيبة: مات الشافعي وماتت السنن، مع أن السنن برمتها عند الثوري، أنه يوصف العالم بما غلب عليه، فمثلاً شيخ الإسلام ابن تيمية غلب عليه الفقه، والترجيح بين الأقوال، فيجعل في طبقات الفقهاء، مع أنه بارع وإمام في الحديث، ويصح أن يطلق عليه أنه الحاكم، لكن غلب عليه الفقه، وهكذا الشافعي الغالب عليه الفقه، وأحمد الغالب عليه الحديث، فيوصف العالم بالغالب عليه.
أيضاً الشافعي خص بذلك لأنه الذي ناظر أهل البدع لتثبيت السنن، فـ الشافعي ناظر مدرسة الرأي ليظهر قوة مدرسة الحديث، وما أحد استطاع أن يقف أمامهم إلا هو، فـ الثوري وهو من أهل الكوفة ما استطاع أن يقف هذا الموقف الذي وقفه الشافعي؛ ولذا لقبوه: ناصر السنة.
قال أحمد بن حنبل: إذا جاءت المسألة ليس فيها أثر فقل فيها بقول الشافعي، وقد جاء في الأثر: أنه يخرج عالم من قريش يملأ الدنيا علماً، قال أحمد: ما أراه إلا الشافعي.
أيضاً قال أحمد في الشافعي: ما أرى أحداً أعظم منة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي، ولا شك أن المنة لله أولاً وآخراً، فالله من عليه بالإسلام ومن عليه بالعلم، لكنه يقصد أنه أجلى روعة الإسلام وروح الشريعة بعلمه.
وقال الإمام أحمد أيضاً: كان الفقه مقفلاً على أهله حتى فتحه الله بـ الشافعي.
وقال: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بينها لهم الشافعي.
وقال لابنه: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل ترى لهذين من عوض؟ وأبو ثور الكلبي كان من أصحاب الرأي، فلما رحل الشافعي إلى العراق جلس أبو ثور ينظر في كتبه فانتحل مذهب الشافعي ونصره، قال: كنت أنا وإسحاق بن راهويه والكرابيسي وجماعة من العراقيين لا نترك بدعتنا -يقصد التمسك بالرأي دون حديث- حتى رأينا الشافعي.
وقال الكرابيسي: ما كنا ندري ما الكتاب ولا السنة ولا الإجماع حتى سمعناه من الشافعي.
وقال أيضاً: ما رأيت مجلساً قط أنبل من مجلس الشافعي، كان يحضره أهل الحديث وأهل الفقه وأهل الشعر، فكل يأخذ وينهل من علمه، وهذا العلم الواسع ما آتاه الله إلا لـ {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:١٣ - ١٤].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الخير في أمتي كالمطر لا يدري في أوله أو في آخره)، فطلب العلم كان كثيراً في الزمن الأول، لكن العلماء المقتدى بهم قلة، فقد نظر شعبة إلى مجلس أهل الحديث وهو يكتظ بطلبة الحديث، فقال: لو يخرج منهم ثلاثة.
وأبو داود الطيالسي يقول: فرأيت فما خرج منهم ثلاثة! والثوري كان يقول: الذين يتعلمون العلم ثلث تشغلهم الدنيا، وثلث يتزوجون، وكان يقول: من تزوج فقد ركب البحر! قال: وثلث يكتبون ولا يعقلون، ولا يخرج منهم إلا قليل.
هذا كلام الثوري وقد كان في القرون الثلاثة الأولى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يسير على الدرب، فنسير بطاقتنا وبما نستطيع، فلا نحسب أننا من طلبة العلم، بل نتشبه بهم، ونسير خلفهم سير النمل، لكن من سار على الدرب وصل، فنسأل الله أن يجعلنا ممن يتفقه في دينه.