للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[آداب قضاء الحاجة]

هناك آداب لا بد أن يتأدب بها الذي يقضي حاجته.

أولاً: إذا أراد أن يقضي حاجته فإن كان في الكنف فله آداب وإن لم يكن في الكنف كأن يكون في الصحراء فلابد أن يبعد المنزل، وإبعاد المنزل هذا من السنن التي ماتت، فلا يأتِ أمام الناس.

وهذا يحدث في كثير من العوام في الطرق والطرقات يفعلون هذا ولا يستحون من الله جل في علاه ولا من عباد الله، فأقول: قد جاء في سنن أبي داود وثبت في الصحيح (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقضي حاجته أبعد المنزل).

وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه قال: (بعد عني النبي صلى الله عليه وسلم حتى توارى)، يعني: حتى توارى عن عيني ونظري فلم أر النبي صلى الله عليه وسلم.

والحكمة من ذلك: حتى لا يسمع أحد صوتاً أو يشتم رائحة، فإن هذه تؤذي الإنسان وغير الإنسان.

فأول الآداب: أن يبعد المنزل حتى لا يؤذي غيره وهو مأخوذ شرعاً.

وإذا دخل الكنف، وهذا هو الكثير والمشهور عندنا الآن، فأول ما يدخل إن كان في يده خاتم مكتوب فيه اسم الله أو اسم الرسول صلى الله عليه وسلم أو آية من القرآن وهذا كثير عند النساء فلابد من خلع هذه الأسورة أو هذا الحلق أو هذه الخواتم.

والدليل على ذلك قاله الشافعية في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء خلع الخاتم، وكان الخاتم قد نقش فيه محمد رسول الله، وهذا الحديث فيه ضعف، لكننا نستأنس به ونستدل بما يغنينا عن ذلك: وهو قول الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:٣٢] إلى آخر الآيات.

وهذا دليل عام، أما الدليل الخاص فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يبول فمر عليه رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فبعد أن قضى حاجته قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن رأيتني على هذه الحال فلا تسلم علي فإن فعلت فلن أرد عليك).

ورد السلام واجب، فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم الواجب لمحل النجاسة وهذه دلالة واضحة جداً على أن ذكر الله لا يصح في هذا المحل، ومن باب أولى الدخول بأي شيء فيه ذكر الله.

الثاني من الآداب: أن يدخل بشماله ويخرج بيمينه، أما الدخول بالشمال والخروج باليمين فأصله الأصيل بعد فعل النبي صلى الله عليه وسلم: حديث عائشة رضي الله عنه وأرضاها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في شأنه كله)، في التردد، وفي التنعم في الطعام، وفي الصلاة، وفي أي شيء (وكانت الأخرى لقلائل)، أو قالت: (كانت الأخرى لقضاء الحاجة).

فإذاً إذا دخل إلى الخلاء دخل باليسار وقبل أن يدخل باليسار يسمي باسم الله، وهذا له أدلة كثيرة منها: حديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستر ما بين عورات بني آدم وأعين الجن تسمية الله)، أو قال: (باسم الله)، فإذا دخل سمى الله لعلتين: الأولى: أنه إذا دخل يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث.

والثاني: أن هذا هو ستر ما بين عورات ابن آدم وبين نظر الجن؛ ولذلك إذا أراد الرجل أن يجامع أهله فإنه يسمي الله، أو أراد أن يخلع ثيابه أن يسمي الله، أو أراد أن يرتدي ثيابه فليسم الله، حتى يستر ما بين عروته وبين أعين الجن.

وهذا الحديث وإن كان السند فيه ضعف لكن بالشواهد يقوى الاحتجاج به، وفي حديث أنس قال: (إذا دخل الخلاء قال بسم الله)، ومعنى (إذا دخل): أي إذا أراد أن يدخل كقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:٩٨] فليس المعنى: بعد أن تنتهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذا خطأ وهذا هو الظاهر، والصحيح أن معناها: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم.

فإذاً: الأول: أن يسمي الله جل في علاه لستر عورات بني آدم من أعين الجن، والثاني: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يدخل بشماله، فإذا خرج قال: غفرانك، وفي رواية: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني).

أما (غفرانك) فهي ثابتة وسنبين تأويله، وأما حديث: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)، فهذا الحديث ضعيف وإن كان المعنى صحيح؛ لأن الله جل وعلا أنعم على العبد ألا تحتبس هذه الفضلات في جسده فيموت وهذا من فضل الله علينا.

لكن الحديث ضعيف والحديث الصحيح هو أن تقول: غفرانك، واحتار العلماء لم يقول: غفرانك، فقال: بعضهم يقول: غفرانك؛ لأنه لم يذكر الله في هذا المحل أو هذا المكان، وفيه إشارة أيضاً على عدم ذكر الله وأنت تقضي حاجتك.

لكن يقال: هو سكت عن ذكر الله بأمر الله، فهو مطيع في هذا الوقت، فكيف يقول: غفرانك لمسألة هو لم يأثم فيها؟ والصحيح أن المعنى في ذلك: غفرانك أني مكثت مدة من الوقت لم يتلفظ لساني بذكرك، وإن كان القلب يذكر الله جل في علاه.

ولذلك بحث النووي بحثاً عظيماً جداً وهو: إذا كان المرء يقضي حاجته وأذن المؤذن فهل يردد أم لا يردد؟ فقال: يردد بقلبه بأن يمرره على قلبه، وإذا سمع رجلاً يقول: اللهم صل على محمد، فيقول: صلى الله عليه وسلم بقلبه دون أن يتلفظ بلسانه.

فإذا خرج قال: غفرانك.

ومن آداب قضاء الحاجة: ألا يستقبل القبلة بقضاء الحاجة ولا يستدبرها، وهذه فيها أدلة كثيرة جداً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي أيوب الأنصاري في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها)، وقال أبو أيوب: قدمنا الشام فوجدنا المراحيض تستقبل القبلة وتستدبر بيت المقدس فكنا نستدير ونستغفر الله جل في علاه.

وفي الحديث الثاني أيضاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول ولا غائط)، وأيضاً في حديث سلمان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تستقبل القبلة ببول أو غائط).

أما المذهب ففصلوا في هذه المسألة فقالوا: يحصل استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء والخلاء والفضاء، أما في الكنف فقالوا بالجواز ولم يقولوا بالكراهة بل قالوا: يجوز إن كان في الكنف مستقبلاً أو مستدبراً فلا شيء عليه.

واستدلوا على ذلك بأدلة منها حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (ارتقيت على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته يستقبل الشام ويستدبر القبلة).

ومن هنا قال الشافعية: يجوز الاستقبال والاستدبار والحديث لا يساعدهم، فإننا نقول: أنتم قلتم: بأنه يحرم استقبال واستدبار القبلة عند قضاء الحاجة في الخلاء ولكم حق في هذا فحديث أبي أيوب وحديث سلمان وحديث أبي هريرة حجة لكم، فأنتم تستدلون به على ذلك ولكم الحق في هذا.

وبعد ذلك قلتم: يباح في الكنف أن يستقبل أو يستدبر قالوا: والدليل حديث ابن عمر: (استقبل النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس واستدبر الكعبة)، قلنا: هذا الدليل فيه استدبار الكعبة لا استقبالها فمن أين أتيتم بأنه يجوز الاستقبال والاستدبار؟ قالوا: قسنا الاستقبال على الاستدبار، وإن كان الاستقبال أغلظ فقد ورد عن جابر الاستقبال، وهذا الاستقبال مؤول على أن هناك جداراً بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكعبة.

والذي يعضد ذلك فعل الصاحب، والراوي أعلم بما روى فإن ابن عمر كان في الصحراء فأناخ ناقته ثم استدبر الكعبة واستقبل بيت المقدس وقضى حاجته فقيل له: ألم تنته عن ذلك؟ فقال: إنما نهانا في الصحراء.

إذاً: في المذهب يجوز الاستقبال والاستدبار دون كراهة إن كان في البنيان، أما إن كان في الصحراء فلا يجوز الاستقبال والاستدبار.

ومن الآداب: عدم تطويل الوقت في قضاء الحاجة، وهذا من ناحية الطب وليس عليه دليل، وقد ورد بأن لقمان كان ينصح ابنه بذلك؛ ولأن الكبد يمكن أن يتعرض للمرض لطول المقام في قضاء الحاجة، فنهاه عن ذلك.

وأيضاً لها شيء من الأثر: وهو أنك مخلوق وتذكر الله جل في علاه، ولما جاء الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! انصحني نصيحة أعمل بها ولا تكثر علي قال: (اجعل لسانك رطباً بذكر الله)، فالأوقات إذا ضاعت في قضاء الحاجة فقد أضعت على نفسك ذكر الله جل في علاه الذي به رفعة الدرجات.

وكان العلماء أحرص ما يكونون في هذا الباب، ولذلك كان جد ابن تيمية إذا دخل الخلاء يقضي حاجته أتى بابنه وأعطاه الكتاب يقرأ عليه وهو يقضي حاجته، فهو وإن لم يستخدم اللسان فقد استخدم القلب والأذن ليسمع مسائل العلم وهو يقضي حاجته حتى لا يضيع وقته في ذلك.

وهذه الآداب التي أشار إليها المصنف رحمه الله بهذا الكلام العظيم في باب آداب التخلي.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>