[لمحة تاريخية عن نشأة الفقه]
ظهر الفقه بعدما جلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسول الله يطلبون حديثه ويعقلون ما يقول، ويتفقهون في الأحكام التي تدور على هذه الأحاديث، وبرع كثير من الصحابة في الفقه، وعلى رأسهم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وعمر الفقيه الملهم المحدث، وزيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، وابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وعبد الله بن مسعود الفقيه المقرئ الحافظ رضي الله عنه وأرضاه، وأبو موسى الأشعري وغيرهم.
وعمر بن الخطاب يبين لنا منزلة الفقه من الإسلام عندما بعث كتاباً إلى أبى موسى الأشعري يقول له فيه: الفهم الفهم فيما يأتيك، واحذ حذوا الكتاب والسنة.
والسنة مثل القرآن في الحجية، لكنها ليست مثله في المرتبة والرفعة، فالقرآن أعلى المراتب، ثم الحديث القدسي، ثم الحديث النبوي.
وكان الفقيه من الصحابة يكون قارئاً للقرآن وحافظاً للحديث.
وهؤلاء الصحابة العلماء ربوا على أيديهم فقهاء برعوا في علم الفقه، منهم فقهاء المدينة السبعة، وهم: الأول: سعيد بن المسيب الذي قال فيه أحمد: أعلم التابعين.
والثاني: عروة بن الزبير، والثالث: سليمان بن يسار، والرابع: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والخامس: خارجة بن زيد، والسادس: القاسم بن محمد، واختلف العلماء في السابع منهم: هل هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أو سالم بن عبد الله؟ فهؤلاء فقهاء المدينة السبعة كانوا إذا اتفقوا على مسألة انتهى بحثها، ولا أحد يبحث بعد ذلك عن هذه المسألة عند غير هؤلاء السبعة.
ثم بعد ذلك نبغ الفقهاء الذين كانوا في قرون الخيرية الأولى، مثل: الحسن البصري الذي كان واعظاً فقيهاً قاضياً مفتياً، قال بعض العلماء: كلام الحسن يشبه كلام الأنبياء، وقد اندثر مذهبه لأنه لم يحمله أصحابه، وما من مذهب اندثر إلا والعلة في أصحابه، وإلا فهم ملئوا الدنيا علماً وحكمة، ومنهم عامر بن شراحيل الشعبي، فهذا الرجل كان فقيهاً أثرياً حافظاً لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اندثر مذهبه لأن أصحابه لم يحملوه، ومن طرائف ما حدث مع الشعبي: أن قصاصاً افترى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله سينفخ في صورين، فقام الشعبي وسط الحلقة فقال: اتق الله! كيف تكذب على رسول الله، من أين أتيت بهذا الحديث؟! فقال: أوترد علي يا ابن كذا! وسبه مسبة شديدة، ثم خلع نعله وضربه به فاقتدى به العامة، فما من أحد إلا وخلع نعله وضربه على وجهه، قال: فما عرفت وجهي من قفاي، فما تركوني حتى أقسمت بالله أن الله سينفخ في سبعين صوراً! ومن الفقهاء الذين اندثر مذهبهم: الأوزاعي فقيه الشام، وقد كان فقيهاً بارعاً أثرياً ينبذ الرأي، وكان قد انتشر مذهبه في الشام وفي الأندلس، ولكن لما انتشر مذهب مالك اندثر مذهب الأوزاعي ومذهب كثير من الفقهاء، مثل مذهب الليث بن سعد مفخرة المصريين الثقة الثبت الحافظ، وقد دخل الشافعي في آخر حياته مصر، فنظر في كتب وكلام الليث فقال: الليث أفقه من مالك، وهناك مناظرات طويلة بين الليث بن سعد وبين الإمام مالك، يراجعه في قوله بتقديم عمل أهل المدينة على أحاديث الآحاد.
ومن فقهاء السلف: داود الظاهري وهذا المذهب مذهب قوي جداً، وداود هذا ولد بعد الشافعي، وكان ينكب على كتب الشافعي، وينتصر لمذهب الشافعي، إلا أنه أخذ على الشافعي القول بالقياس، وهو ينكر القياس تماماً، وهذا الذي أضعف مذهب داود الظاهري، وهذا المذهب اندثر حتى قام من ينتصر له وهو ابن حزم فارس الميدان؛ ولذلك بقي إلى الآن مذهب الظاهرية في كتاب المحلى للإمام ابن حزم.
ومن الفقهاء الذين اندثر مذهبهم: الثوري، وكان قريناً للإمام أبي حنيفة، وهو ثقة ثبت حافظ للحديث فقيه دخل أبو حنيفة على الثوري وكان مجلسه يعج بطلبة الحديث، فقام الثوري من مكانه، فأجلس أبا حنيفة مكانه فاستاء أصحابه، ولأهل الحديث كلام فيه غمز في أبي حنيفة لضعف اعتنائه بالحديث، وأيضاً لمذهبه في الإيمان، فقال الثوري: إن لم أقم لعلمه، قمت لسنه، فكان يعرف له قدره، وكان أبو حنيفة يعرف لـ سفيان قدره، وسفيان كان يخالف أبا حنيفة في مسألة القياس والرأي، فكان كثيراً ما يأخذ بالأثر ويعض عليه بالنواجذ، والثوري لا ترى له كلاماً في الفقه إلا في بطون كتب الفقه، وليس له مذهب مستقل.
ثم بعد ذلك من الله على الأمة بأربعة فقهاء بقيت مذاهبهم، وبقي الناس يقتدون بهذه المذاهب.