إمام هذا المذهب هو: الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، نشأ يتيماً، وهذا هو دأب العلماء، فقد يكون أحدهم فقيراً، وما ترى عالماً كان غنياً، بل قال الإمام مالك: لن يصل أحد لهذا العلم إلا من أدقعه الفقر.
وقد ولد بغزة ثم ارتحل مع أمه إلى مكة، فاشتغل بالأدب والبلاغة والشعر، وقابل مسلماً بن خالد الزنجي وهو ليس زنجياً، بل كان شديد البياض، فلقبوه بالعكس، كما هو دأب العرب، فنظر إلى الشافعي وقال له: من أين أنت؟ فقال: أنا مطلبي، فقال: بخ بخ! هلا جعلت فهمك هذا في الفقه؛ فانشغل بعلم الفقه، فأخذ الفقه على يد مفتي مكة مسلم بن خالد الزنجي، ثم ذهب بعد ذلك إلى المدينة فسمع من مالك الموطأ، وكان الإمام مالك ذو هيبة عظيمة، وكان إذا أراد أن يحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل أولاً ثم تطيب بأحسن طيب ثم جلس وطلبة العلم جالسون أمامه كأن على رءوسهم الطير، والإمام الشافعي حضر مجلسه وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وجلس في آخر المجلس يستمع للإمام مالك، ولم يكن معه قلم ولا أوراق، وكان الإمام مالك يقرأ عليهم الحديث؛ لأن المحدث أما أن يملي وأما أن يُقرأ عليه فيقر، فكان يملي الأحاديث والشافعي يسمع الحديث ويضع أصبعه في فمه، فتعجب مالك منه، وكان الإمام مالك من أشد الناس تعظيماً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي عنه أنه كان لا يمشي في المدينة إلا حافياً، فلما سئل عن ذلك قال: احتراماً لصاحب القبر، فلما عظم سنة النبي صلى الله عليه وسلم عظمه الله جل في علاه، وأصبح مذهبه منتشراً في كل البلاد والأمصار والأعصار، وهذا هو الذي رفعه على كثير من الفقهاء الذين يتقدمونه فقهاً، فبعد أن انتهى المجلس قال للشافعي: تعال، فجاءه فأغلظ له مالك في القول، وقال له: مالي أراك سيئ الأدب! فقال الشافعي: وما رأيت من سوء أدبي؟ قال: ألا تراني أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تضع أصبعك في فمك؟ قال: كنت أكتب الحديث عنك، فسرد كل الأحاديث التي سردها الإمام مالك، وكان الشافعي صاعقة في الحفظ، وكان إذا قرأ القرآن ونظر إلى صفحة وضع يده في الصفحة الأخرى حتى لا يقرأ الصفحتين، فكان صاعقة في الحفظ، فلما سرد له الأحاديث أعجب به مالك، ودأب العلماء والفقهاء أنهم يميزون طلبة العلم الأذكياء عن غيرهم فأخذه إلى بيته، فقرأ عليه الموطأ في عشرة أيام من حفظه غيباً، فأعجب مالك به كثيراً وكان يقول له: زد في القراءة؛ لأنه كان فحلاً في اللغة، فلما قرأ على مالك الموطأ قال له الإمام مالك: إنه سيكون لك شأن، فعليك بتقوى الله واجتنب المعاصي، ثم قال: أريد أن أرحل إلى العراق، فجاءت هدية إلى الإمام مالك فقسمها بينه وبين الشافعي، وودعه وذهب الإمام الشافعي إلى العراق، وصار يتعلم من فقهاء مدرسة الرأي، وكان يناظرهم، فعندما دخل المسجد أول مرة بدأ يبين مذهبه، وكان إذا رأى خطأ تكلم ولم يسكت، فقام القوم عليه وكادوا يقتلونه، وقالوا لـ محمد بن الحسن: هناك رجل يشوش علينا فناظره، وهو من مكة، وكان المحدثون في العراق يهابون أهل الرأي؛ لأن أهل الرأي إذا تكلم المحدث بالحديث قالوا له: هل هذا الحديث عام أم خاص؟ هل هذا الحديث مطلق أم مقيد؟ فما يعرف، فكانوا يغلبونهم مع أن الآثار معهم؛ لأنهم كانوا يحملون الأحاديث فقط:(رب حامل فقه ليس بفقيه)، فكانوا يخافون من أهل الرأي، فلما ناظروا الشافعي سألوه: كيف تدخل في الصلاة؟ فقال: بركنين وسنة، فلما سمعه محمد بن الحسن علم أن له قسطاً من العلم فأخذه إلى بيته، فلما ناظر الشافعي ما استطاع أن يغلبه، وعلم أن له مكانة في العلم، فانتشر مذهب الشافعي والتف حوله أهل الحديث لما علموا أنه ينصر سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه الوحيد الذي يستطيع أن يجابه أهل الرأي، فالتفوا جميعاً حوله، وقد كان الإمام أحمد بن حنبل ينهى عنه، ويحسب أنه من أهل الرأي، فلما علم أنه ناصر للحديث لازم الشافعي، فكان أحمد يعرف قدر الشافعي، ولما عاتبه يحيى بن معين على مجالسته للشافعي رد عليه، وقد كان يحيى يتكلم في الشافعي.
ألف الشافعي المذهب القديم في العراق ثم بعد ذلك رحل إلى مصر فنظر في كلام الليث ونظر في الآثار، فغير كثيراً من أقواله من المذهب القديم إلى المذهب الجديد الذي كتبه في مصر، وأخرج كتاباً يخالف فيه مالكاً مع أنه شيخه، لكنه خالفه في مسائل كان الأثر والحجة بخلاف قول مالك، وقد ورد عن الشافعي بسند صحيح أنه قال: أجمعت الأمة على أنه من استبانت له سنة رسول الله فلا يحل له أن يحيد عنها لقول قائل كائناً من كان.