[الماء النجس]
إذا وقعت النجاسة في الماء فغيرت وصفاً من أوصافه الثلاثة، طعمه أو رائحته أو لونه، سواء كان قليلاً أو كثيراً؛ فبالإجماع أنه يصير نجساً لا يصح رفع الحدث به، ولا إزالة النجس.
وعند الشافعية في المذهب التفريق بين الماء القليل والماء الكثير، وضابط التفريق بين الماء القليل والكثير هو: مقدار القلتين، فلو كان عندنا إناء فيه ماء، فوقعت فيه قطرة من النجاسة ولم تغيره، فهو نجس عند الشافعية؛ لأنه ماء قليل.
وإذا كان الماء أكثر من قلتين فوقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو طهور.
ودليل الشافعية على التفريق بين القليل والكثير حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، وهذا الحديث صحيح على الراجح، ولهذا الحديث منطوق ومفهوم، فمنطوق الحديث: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، وإن وقعت فيه أي نجاسة لم تنجسه على الإطلاق، لكن الإجماع على أنه لو تغير أحد أوصافه يكون نجساً.
ومفهوم الحديث: إذا كان الماء أقل من قلتين فالحكم يختلف، الأول: لم يحمل الخبث، وهذا يحمل الخبث، فإذا كان الماء أقل من قلتين ووقعت النجاسة فيه ولو قطرة بول، فعند الشافعية ينجس.
الدليل الثاني: الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً)، ثم علل وبين الحكمة فقال: (فإنه لا يدري أين باتت يده)، قال الشيخ أحمد شاكر: إذا كان الخلاف في اللغة فقول الشافعي حجة، فقد كان من العرب الأقحاح، قال الشافعي: العلة أنهم كانوا يستطيبون بالحجارة، أي: كانوا يستجمرون بالحجارة، والاستجمار بالحجارة ينقي المحل من العين ويبقى الأثر، فإذا نام تعرق لأن بلادهم حارة، فإذا حك بإصبعه محل النجاسة فإنه سيعلق بإصبعه شيء من النجاسات، وهذه النجاسة يسيرة جداً لا يمكن للإنسان أن يراها، فإذا قام وقد علقت بأصابعه النجاسة، ووضع يده في الإناء، فإن هذا الماء الذي في الإناء سيكون حكمه النجاسة، ووجه الدلالة من الحديث: عدم التفصيل، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما قال في حديثه: فإن تغير الماء فلا يجوز استعماله، وإن لم يتغير فيجوز استعماله، بل أطلق وقال: (لا يضع يده)، سواء تغير، أو لم يتغير، فيكون حكمه واحداً وهو: النجاسة.
الدليل الثالث: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً)، وفي رواية: (إحداهن بالتراب)، أو قال: (طهارة إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً) وفي رواية: (فأهرقه) فأمر بإلقاء الماء لأنه قد فسد بالنجاسة، وهذه النجاسة جاءت من ولوغ الكلب في الإناء، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يقل: لو تغير الماء فألقوه، وإن لم يتغير فأبقوه، ما فصل، فهذا وجه استدلالهم بهذا الحديث.
الدليل الرابع: حديث الهرة، فقد كان أحد الصحابة يتوضأ من الإناء، فجاءت هرة لتشرب فقرب لها الإناء، فدخلت زوجة ابنه فاندهشت ونظرت إليه، فقال لها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم)، فوجه الدلالة عند الشافعية من هذا الحديث: أن ولوغ القط في الإناء القليل لا ينجسه، ولو كان نجساً لنجسه، بدليل قوله: (إنها ليست بنجس)، فمفهوم المخالفة أنه لو كان سؤر القط نجساً، وشربت من الإناء فإنه ينجس سواء تغير أو لم تغير.
قالوا: هذه أدلة من الأثر، أما من النظر: فإن يجعلنا نفرق بين الماء القليل والماء الكثير أن المشقة تجلب التيسير، فلما كان حفظ وصون الماء القليل يسير على الناس شددنا عليهم في الأحكام، فقد قال الشرع: لا بد أن تحفظوا ماءكم من النجاسات، فإن لم تحفظوا فقد فرطتم، فيكون الحكم عليكم شديداً، وهذا الماء ينجس، وإن كان كثيراً يشق عليكم حفظه يسرنا عليكم في الأحكام.
والمالكية خالفوا في هذا، وعندهم أدلة قوية جداً، حتى إن الغزالي وهو من الشافعية قال: ليت الشافعي قال بقول مالك في المياه، وهذا الكلام لا يؤخذ به ولا يعتبر، بل فحول الشافعية يرون أن مذهب الشافعي هو الصحيح، والدليل معه، والمالكية يستدلون بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور)، يعني سواء كان قليلاً أو كثيراً (لا ينجسه شيء) قالوا: هذا عام في القليل والكثير، واستدلوا أيضاً بحديث الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزرموه، وأهريقوا عليه ذنوباً من ماء) وذنوب الماء قليل، وهو يطهر النجاسة، فكيف تفرقون بين القليل والكثير؟! قالوا: ولو التقى الماء القليل مع البول سينجس؛ لأن عندكم أن الماء القليل لو لاقى نجاسة ينجس، وسنبين الرد على هذا نزولاً عند رغبة الإخوة، ففي هذه المسألة سنتوسع بذكر الخلاف فيها، وسنبين الرد على المخالف إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.