[بسم الله الرحمن الرحيم]
الحمد لله الذي جعل محمّداً حسن الأخلاق، محمود الشمائل والأعراق، طاهر المولد والنقيبة، طيب المحتد والضريبة، قد أكمل منه الحقيقة، وابتعثه إلى جميع الخليقة، بعد أن نظمها بسلك الإنشاء لأجله، ونثر عليها فرائد نعمائه وفوائد فضله، ثمّ أثنى عليه في الذكر الحكيم بقوله عزّ من قائل: (وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) نعترف له بتبليغ الرسالة، ونصلّي عليه صلوة تبلغ في كمالها كماله، وعلى عترته المنتجبة، الذين تفرّعوا من شجرته الطيّبة، وصحبه الأماثل، ما ناوب الطالع الآفل.
أمّا بعد؛ فلقد كان ممّا سمع به الدهر على شحه، أن أطلع في سماء الكرم نيّر صبحه، في عصر كأنّه المعنيّ بقول عمّنا المهدي:
قد مات من كلتا يديك الكرم ... وسمع جدواك عراه الصمم
وغاض من وجهك ماء الحيا ... فعاد منك الوجه صخراً أصم
بل أصدق مواعيد أشرافه كالسراب الآفك في ترقرق نطافه، قد تواصت حتّى أمجاده بالبخل، وتعاقدت على طرد بني الآمال طرد غرائب الإبل، فما أحقّهم فيما جبلوا عليه من الطبع الردي بقول الشريف أبي الحسن الرضي الموسوي:
وأيد جفوف لا تلين كأنّها ... ولو مطرت فيها العيون جماد
لهنّ على طرد الضيوف تعاقد ... هراش كلاب بينهنّ عقاد
ولقد أخذه من قول أبي عيادة البحتري:
لو صافحوا المزن ما ابتلت أكفّهم ... ولو يخوضون بحر الصين ما غرقوا
جفّوا من البخل حتّى لو بدى لهم ... ضوء السهي في ظلام الليل لاحترقوا
ما فيهم إلاّ من هو منبسط اللسان بالعود، منقبض البنان عن الرفد، حريص إلاّ على حسبه، سمح إلاّ بما أضبت عليه يده من نشبه، كأنّه لم يسمع بقول أبي فراس:
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى ... ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره ... إذا لم يفر عرضي فلا وفر الوفر
فلا ومن جعل السماحة في الأنجاب غريزة، والشحة فى الأحساب غميزة، ما ضمن ثوب هذا الزمن غير "محمّد حسن" فهو لما فيه من كرم الأخلاق وشرف النفس وطيب الشمائل وحسن المخائل كما قيل فيه، وأنا القائل:
ملك عظيم القدر أمّ ملك ... من تحت علياه جرى الفلك
لبست به الدنيا أشعّتها ... فانجاب عن أقطارها الحلك
نصر الرجا بالحود حين غدا ... بين الرجا واليأس معترك
إن تنفرد بالجود راحته ... فالناس فى معروفها اشتركوا
لا تلتقي أجفان حسده ... سهداً كأَنّ لها الكرى حسك
ولقد كان برقة أخلاقه وشرف طبعه وكرم أعراقه وجميل صنعه قد راض كرائم فكري حتّى استلان جماحها ومسج بيد شرفه غررها وأوضاحها، فجعلت ما أنشأته فيه من المدائح أزاء ما اصطنعه إليّ ابتداء من تلك المنايح لأنّ أفضل المكافات عَلَى الصنيعة شكر من أسداها، والثناء على من أولاها من حيث تظمن الثناء نشر المفاخر وتعداد المآثر على أنّه لظرفه ولما عنده من الهزة والأريحية على وقاره كان كثير الإعجاب بأبكار فكري الأتراب، فرأيت أنّ من تمام القيام بحقوق المحبّة لهذا الماجد أن أجمع شمل ما نظمته فيه وزيّنت به حسان معاليه، وأن أضيف إليه ما أنشأته أنا وعمّنا المهدي في أبيه وأُسرته في ضمن كتاب لطيف امع بين حسن العبارة والتأليف، وأن أُودّع فيه ما كتبنا به إليهم من الرسائل، وأوشّح كلّ مقام انتهي إليه بذكر ما يناسبه من الإستحسانات البديعيّة والإستضرافات الأدبيّة والنوادر الغريبة والحكايات العجيبة، لأنّ ذلك أدعى لتناقل المدح، وأبقى على الدهر لذكر الممتدح، وقبل الشروع بهذا المشروع أوعز هو إليّ أن أضمّ إلى ذلك الشمل ما نظمته في غيرهم من ذوي الفضل، وما اتّفق لي من الأبيات والقصائد في الأغراض والمقاصد، فأجبته إلى ما عزم به عَلَيّ إلاّ أنّي لم أثبت فيه ما كان لي في غيرهم إلاّ ما هو آخذ بنصيب وافر من الحسن والظرف إضراباً عن الإطناب المخل، واجتناباً عن الإكثار من إيراد ما يخرج عن المحل، فنظمت تلك القصائد والفوائد وضممت إليها شمل هاتيك البدائد في سلك هذا الكتاب راجياً أن يقع موقع الإستحسان من نضر ذوي الألباب، ووسمته ب "العقد المفصّل" في قبيلة المجد المؤثل، ورتّبته على مقدّمة وثمانية وعشرين باباً وخاتمة.