للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال: فجائني بعد ذطلك فقال: يا أبا علي! ما كان ذنبي إليك؟ وما أردت بما صنعت بي؟ فقلت له: وما ذاك عافاك الله؟ فقال: ما هو إلاّ أن وصل إليها ذلك الكتاب حتّى بعثت إليّ: إنّي مشتاقة إليك، والكتاب لا ينوب عن أن أراك، فتعال إلى الروشن الذي بالقرب من بابنا لتقف بحياله حتّى أراك، فتزيّنت بأحسن ما قدرت عليه وصرت إلى الموضع فبينا أنا أنتظر مكلّماً لي أو مشيراً إليّ وإذا شيء قد صبّ عَلَيّ فملأني من فرقي إلى قدمي، وأفسد ثيابي وسرجي، وصيّرني وجميع ما عَلَيّ ودابّتي في نهاية السواد والنتن والقذارة، وإذا هو ماء قد خلط ببول وسواد وسرجين، وانصرفت بخزي وكان ما مرّ بي من الصبيان وسائر من مررت به من الطنز والضحك والصياح أعظم ممّا جرى عَلَيّ، ولحقني من أهلي ما هو شرٌّ من ذلك وأعظم من كلّ ما ذكرته إنمنعت رسلها وانقطعت عنّي. قال: فجعلت أعتذر إليه وأقول: إنّ الآفة أنّها لم تفهم الشعر بجودته، وأنا أحمد الله على ما ناله وأسرّ بالشماتة إليه.

وحيث انجرّ الكلام إلى ذكر هذين الغبيين فلا بأس بتوشيحه بذكر نوادر بعض الحمقاء ونوادرهم كثيرة.

[نبذة من نوادر الحمقاء]

منها ما أورده أبو العبّاس السنجري في كتابه قال: قال واحد من أهل حمص لآخر: عليك بالسنّة تدخل الجنّة، فقال: وما السنّة؟ فقال: حبّ أبي بكر بن عثمان، وعمر بن الصدّيق وعثمان بن الفاروق وعلي بن أبي سفان ومعاوية بن أبي طالب. فقال صاحبه: وما معاوية بن أبي طالب؟ قال: كان صلّى الله عليه وسلّم رجلاً عابداً من أهل حملة العرش، وكاتب المؤمنين، وخال الوحي، وختن النبي على ابنته عائشة جدّة فاطمة.

وجاء بعضهم إلى القضاة آخذاً بتلبيت رجل، فقال: أعزّ الله القاضي، اصلى الله عليه وآله وسلم نّ هذا رافضي ناصبي مجبري مشبهي جهمي مبتدعي حروري يشتم عليّ بن أبي طالب ويحبّ عمر بن أبي قحافة وأبابكر بن عفّان. فقال القاضي: لا أعرف أيّ شيء أحسد منك: علمك بالمذاهب أم معرفتك بأنساب العرب؟ ومات ابن قاض وكان القاضي يتفلسف، فلمّا أرادوا دفن الميّت قال للحفّار: أضجعه على شقّة الأيسر فإنّه أهضم للطعام.

وجاء حمصي إلى الطبيب فقال: إنّ امرأتي تشكت جوفها أو وسط بطنها أو فوق بطنها. فقال الطبيب: إحمل مائها إليّ لأنظر فيه. قال: لعلّك تعني بولها؟ قال: نعم، فذهب وجاء بطست، فقال الطبيب: ألا جئت به في قارورة؟ فقال: جعلت فداك إنّ إحليلها أوسع من ذلك.

ولنكتف من ذكر نوادرهم بهذا المقدار، ثمّ نعود إلى الكلام على ما في بعض أبيات المقطوعة. أقول: فأمّا قولي:

تدبُّ على الورد النديّ بخدّها ... عقارب من أصداغهنّ لواذع

لوادغ أحشاء يبيت سليمها ... ودرياقه عذب من الريق سائغ

ففيه تشابه الأطراف وهو أن يجع الشاعر أو الناثر قافية بيته الأوّل أوّل بيته الثاني ليبقى الطرفان متشابهين، والنّاثر كذلك يفعل في السجعات، وهذا النوع كان يسمّى التسبيغ بسين مهملة وغين معجمة. وإنّما ابن أبي الأصبع قال: هذه التسمية غير لائقة بهذا المسمى فسمّاه: تشابه الأطراف، ومن أبرع ما جاء نظماً في ذلك قول ليلى الأخيليّة في الحجّاج وذلك ما روى في الفتح القريب أنّ مولىً لعنبسة بن سعيد ابن العاص قال: كنت أدخل مع عنبسة إذا دخل على الحجاج، فدخل يوماً ودخلت عليهما وليس عند الحجاج غير عنبسة، فأقعدني فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئاً وجائني به، ثمّ جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال له الحجاج: أدخلها، فدخلت، فلمّا رآها الحجاج طأطأ رأسه حتّى ظننت أنّ ذقنه أصاب الأرض، فجائت حتّى قعدت بين يديه، فنظرت فإذا امرأة قد أسنّت وهي حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نفسها، فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما أتانا بك؟ فقالت: أخلاف النجوم، وقلّة الغيوم، وكلب البرد، وشدّة الجهد، وكنت لها بعد الله الرفد. فقال لها: صفي لنا الفجاج، فقالت: الفجاج مغبره، والأرض مقشعرة، والمبرك معتل، وذوالبال مختل، والهالك للقل، والناس مسنتون، رحمة الله يرجون، وأصابتنا سنون محجفة مبلطة، لم تدع لنا هيعاً ولا ريعاً، ولا عافطة ولا نافطة، أذهب الأموال، ومزقت الرجال، وأهلكت العيال، ثمّ قالت: قلت في الالمير قولاً، فأنشأت تقول:

<<  <   >  >>