والشواهد في هذا النوع كثيرة، وما أحلى قول بعضهم وكان مغرماً بالتضمين:
أُطالع كلّ ديوان أراه ... ولم أزجر عن التضمين طيري
أضمّن كلّ بيت فيه معنىً ... فشعري نصفه من شعر غيري
تمّت الأبواب بعون الملك الوهّاب، وتتلوها خاتمة الكتاب.
[خاتمة الكتاب]
[وفيها فصول]
[فصل في نبذة من رسائلي له]
كتبت إليه بهذه الرسالة جواباً عن رسالة بعث بها إليّ:
في فمي لم يزل لذكرك نشر ... طيب واختبر بذاك النسيما
وبمرآة فكرتي لم يزل شخ ... صك نصب العينين منّي مقيما
وعلى النحر من علاك ثنائي ... ليس ينفك عقده منظوما
لا تظنّ العباد يحجب عنّي ... منك ذيّالك المحيّا الكريما
فوشوقي وموقع الودّ منّي ... قسماً لا أراه إلاّ عظيما
أنت عندي بالذكر أحضر من قل ... بي بقلبي فكن بذاك عليما
لست أقوى لحمل عتبك يا من ... حملت فخره المعالي قديما
فاثن من غرب عتبك اليوم عنّي ... فيه قد تركت قلبي كليما
إنّي ومن جعلك ريحانة الأديب، وسلوة الغريب، لم أستوجب منك كلّ هذا العتاب، ولم أستجلب بمسائة كلّ هذا الخطاب، وهبني أسأت فأين العفو والكرم، ولعمري لقد تجرّمت عَلَيّ فلا جرم، إنّي أعتذر الآن فأقول ما حلت إزرار جيبها الصبا، ولا فتحت إكمام النور على الربى، بأوقع في النفس، وأشغل للحواس من الخمس، من بديع بيان، كأنّه قطع جنان، يجلو بواضح الإعتذار ظلمة العتب، ويمحو بصادق التنصّل كاذب الذنب، من محبّ صدع التقريع منه الأحشاء، وأرمضت قلبه هواجر الإستجفاء، إلى من حنوت له ولا حنواً المرضعات على العرام، وعذوت له الحبّ ولا غذاء الآباء طرائف الهيام، حتّى شبّ وليد شوقي إليه على الشغف، ونشا طفل ولوعي به في حجر الصبابة والكلف، وحتّى سكنت نفسي إلى هواه، سكون الجفن الساهر إلى كراه، أعني به جوهرة الزمن، وغرّة وجهه الحسن، أنمى الله غصن شبيبته على الفضائل، وشدّ إزر المعروف من عطائه بواصل.
فله أياد لا تزال ... سمائها كرماً مخيله
ونقيبة ما غيّرت ... في الجود عادتها الجميله
ويد كضرع الغيث ... يمخضها الرجا مخض الثميله
أمّا بعد؛ فحين وصلت إليّ عقيلة فكرك، وجميلة نظامك ونثرك، طرحت عنها الإزار، وحللت من غلالتها الإزرار، ثمّ قبلت منها فتاة يزري بفتات المسك خلوقها، وبابنة العنقود راووقها، فشفت بعذب كلامها غلّة صدري، ونفثت بسحر بيانها في عقد صبري، قد نشرت لدي حديث واصل، ثمّ بسطت على لسان عاذل، فأباتني تأنيبها مبيتاً نابغي، وقلّبني توبيخها في مضجع ابن هاني المغربي، بل كلّما ضرب الليل على الأُفق رواقه، وعقد على الشفق إزراره ونطاقه، أمسي وهمومي القارعة، وأفلاذ كبدي الواقعة، وفاتحة الرعد سائغ ريقي، وخاتمة الأعلى في شرايين أوردتي ووشائج عروقي، وآرائي في الشعراء، وأحشائي ما جعله الخليل وسط الأنبياء، تقريباً بلا استثناء، وكلّما فلق الصبح بعموده هامة الغسق، وشهر خاضباً من وريد الظلام سيفه الشفق، أصبح ولسان حالي، يترجم عن لسان مقالي، إذا رأيت قوماً، إنّي نذرت للرحمان صوماً.
فوا عجباه والدهر سلك عجائب، والأيّام مثرية من الغرايب، كيف يتطرّق إلى وهم، أو يتصوّر في خيال أخي وهم، إنّي في تياك المودّة أشقى، بعد ما تمسّكت منها بالعروة الوثقى، لا وعافاك الله من العلل، وبلغك منتهى المجد وقد فعل، لا يلهو عن تلك المحبّة عميدها، ولا يخلق على تعاقب الليالي والأيّام جديدها، وليت شعري اعتاض عنك، بأيّ بدل منك، ولمن أربى مولود الوفاء، وإلى من أزفّ عروس الإخلاص والصفاء، وملتمس الثقة، لا يداع المقه، كالمرتبع بواد غير ذي زرع، والمنتجع في بواد خالية اللمع، والمغترف من الراب الخادع، والقابض على الماء خانته فروج الأصابع، فهم ومن جعلكم جواهر الزمن، حريون بقول المهيار أبي الحسن:
خلق إذا حدّثت عن أخلاقها ... فكأنّما كشّفت عن سوآتها