نعاك لي الناعي فخلت حشاشتي ... عليها التقت أنياب أفعي من الرقش
وقد كنت أرجو أن أُهنّيك بالشفا ... فأصبحت أنشي في رثاك ما أنشي
وما خلت أنّ الدهر فيك مخاتلي ... يراصدني سرّاً بغائلة البطش
إلى أن رأت عيني سريرك والعلى ... على أثره ثكلى وتعلن بالجهش
فلم أرَ لي من حيلة غير أنّني ... نظرت إليه إذ نأى نظر المغشي
كأنّ الذي في الأُفق نعشك سائراً ... وطرفي السهى والحامليك بنوا نعش
مشت خلفك التقوى تشيّع روحها ... ومن غير روح ما رأى ميّت يمشي
بكتك وظفر الوجد يخدش قلبها ... فمدمعها المحمر من ذلك الخدش
لئن كنت فيما تبصر العين ثاوياً ... بدار البلى في ذلك الجدث الوحش
فإنّك عند الله حيٌّ منعّم ... لديه على تلك النّمارق والفرش
ولولا ابنك الزاكي لأدمى تأسّفاً ... عليك التقى كفّيه بالعضّ والنّهش
ولكن رأى والحمد لله باقياً ... له حسنٌ فاختار ما اختار ذوالعرش
فتىً حنيت منه على قلب خاشع ... جوانح ذي نسك سلمن من الغشّ
فما ينطق العوراء مذود فضله ... ولا سمع تقواه يعي قولة الفحش
تعاهد غيث العفو مرقد محسن ... يبلّ ثرىً وأراه رشّاً على رشّ
[الباب الرابع عشر في قافية الصاد]
[وفيها فصل في المديح]
قلت في مدحه هذه القطعة الفذّة:
أنخ يا سعد ناجية القلاص ... بحيث الدار طيّبة العراص
وعد فأعد حقائبها بطاناً ... بنائل موئل النفر الخماص
فثمّة ضاحك العرصات عمّت ... نوافله الأداني والأقاصي
بها حلّت تميمتها المعالي ... وأمست وهي مرخية العقاص
أما وندىً كم انتاش ابن دهر ... به نصب البلا شرك اقتناص
لقد خلص الثناء على مجيد ... به وجد السبيل إلى الخلاص
أغرّيري دلاص الحمد أصفى ... على عرض الكريم من الدلاص
ترقّى في العلاء بحيث منها ... تبوء في الذائب والنواصي
شرى درر الثنا تغلوا ونادى ... أوفري أنت عندي في ارتخاصي
ويا عَرضي هدرت دماك جوداً ... ويا عرْضي اقترح شرف القصاص
فقل يا بحر مدّك رهن جزر ... وقل يا بدر تمّك لانتقاص
دعا دعوى الفخار فكلّ فخر ... به لمحمّد شرف اختصاص
فأمّا قولي:
وعد فأعد حقائبها بطاناً ... بنائل موئل النفر الخماص
المراد بالخماص الجياع إلاّ أنّه مرّة يلخط به الجياع من الفقر وهم العفاة فهو منجاهم ومقرّهم لأنّهم لا يفدون إلاّ عليه لاستماحة جوده، ومرّة يلخط به الجياع من الإيثار بطعامهم وهم الكرام الذين تطرقهم الأضياف فهو موئلهم الذي تجتمع أُمورهم عليه وتنتهي آراؤهم في المهمّات إليه والملحوظ بذلك رياسته عليهم وزعامته فيهم، وتفسير الخماص بهذاالمعنى من أحسن صفات المدح، قال مهيار الديلمي:
يبيت خميصاً جنبه ووساده ... وطارقه خصباً كما شاء بائت
وفي خطبة لفاطمة عليها السلام: وفهتم بكلمة الإخلاص مع النفر البيض الخماص.
وعلى ذكر الحقائب ما رواه السيّد المرتضى في الدرر قال: أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال: أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم قال: أخبرنا أبو عبيدة عن يونس قال: دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك ومعه نصيب الشاعر، فقال له سليمان: أنشدني، فأنشده:
وركب كان الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب
سروا يخبطون الليل وهي تلفّهم ... إلى شعب الأكوار من كلّ جانب
إذا أبصروا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
فاسودّ وجه سليمان وغاظه فعله وكان ظنّ أنّه ينشده مدحاً له، فلمّا راى نصيب ذلك قال: ألا أُنشدك؟ فأنشده:
أقول لركب قافلين رأيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب
قفوا خبّروني عن سليمان أنّني ... لمعروفه من أهل ودّان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
فقال له سليمان: أنت أشعر أهل جلدتك.
وفي بعض الأخبار: إنّ الفرزدق قال ذلك في نصيب لمّا سأله عنه سليمان.