للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نشطنا عشيّاً لشرب المدام ... فأرعش بكأسك منّا الرؤسا

وقم هاتها من بنات الكروم ... على ورد خدّيك تجلّى عروسا

كأنّ الندامى على شربها ... بدور دجىً تعاطى شموسا

تداعوا لنيرانها ساجدين ... ودعواهم لا عدمنا المجوسا

سأحبس ما عشت ركب الرجاء ... بحيث يفكّ النوال الحبيسا

لدى من تخيّرت المكرمات ... على نحرها منه عقداً نفيسا

له المجلس المحتبي بالنهى ... يراع به من يروع الخميسا

وقلّ بأن يفرش الفرقدين ... ويتّخذ البدر فيه جليسا

فيابن نجوم جرت في العلاء ... لقوم سعوداً وقوم نحوسا

غدا بك يوم الندى ضاحكاً ... ويوم العدا عاد جهماً عبوسا

بقيت على عطل الحاسدين ... تحلي يد المدح فيك الطروسا

فأمّا قولي:

سأحبس ما عشت ركب الرجاء ... بحيث يفكّ النوال الحبيسا

فقد وقع فيه التصدير ويُسمّى ردّ العجز على الصدر وهو عبارة عن أن يأتي الشاعر بكلمة في صدر البيت متقدّمة أو متأخّرة ثمّ يأتي بلفظها أو معناها أو بما تصرّف من لفظها في عجزه. وأمثلة هذا النوع كثيرة وله عدّة ضروب، وأحسنه ما كانت فيه اللفظة افتتاحاً للبيت والأُخرى ختاماً له كبيتنا المذكور، وكقول الشاعر:

تمنّت سليمي أن أموت صبابةً ... وأهون شيء عندنا ما تمنّت

وقول البحتري:

ضرائب أبديتها في السماح ... بها لم نجد لك يوماً ضريبا

وقول الآخر:

كلّ ريم يعطوا فيصطاد ليثاً ... عند ليث يسطو فيصطاد ريما

وقول أبي تمام:

وجوه لو أنّ الأرض فيها كواكب ... توقّد للساري لكانت كواكبا

وقوله أيضاً:

وليل بتّ أكلؤه كأنّي ... سليم أو سهرت على سليم

أراعي من كواكبه سواماً ... هجاناً لا تريع إلى المسيم

بل شعر أبي تمام أغلبه مبني على التصدير وبذلك بلغ غاية الإستحكام من إتقان مبانيه وتمكّن قوافيه إذا القافية تكون مرادة من أوّل البيت وعليها يبتني نظمه وحسن الصناعة يقتضي ذلك.

[الباب الثالث عشر في قافية الشين]

[وفيها فصلان]

الفصل الأوّل في المديح

قلت فيه هذه القطعة:

ولربّ ريم طرفها ... بالهدب سهم اللحظ راشا

ورمى به صبّاً لفرط ... ضناه يرتعش ارتعاشا

قالت جنحت لسلوة ... فانظر لسهمكَ كيف طاشا

فأجبتها لا والذي ... جعل النهار لنا معاشا

أنا في سبيل هوى الكوا ... عب أربط العشّاق جاشا

هيهات أسلو أو يقا ... ل سلا الندى حسنٌ وحاشا

ذاك الذي لحوائم ... الآمال لم يترك عطاشا

مذ قام للعليا مؤمّل ... ها وبحر نداه جاشا

ماتت نفوس الحاسدين ... بغيضها والفضل عاشا

من لو تساجله الغيو ... ث أراك وابلها رشاشا

تستشعر الأسد الغضا ... ب لعظم هيبته اندهاشا

وعلى سراج جبينه ... الآمال تحسبها فراشا

وقد اشتمل قولي فيها:

هيهات أسلو أو يقا ... ل سلا الندى حسنٌ وحاشا

على الإيغال وهو ختم البيت بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها، فإنّ بيتنا هذا تمّ معناه قبل القافية إذ المراد منه تعليق حصول السلو عن عشقها على سلو الحسن عن الندى بناء على أنّه تعليق على محال وهو كما تراه حصل بتمامه قبل القافية، فلمّا أتينا بها أفدنا زيادة التنزيه مع المبالغة في ذلك، ومن النظائر قول الخنساء في أخيها صخر ترثيه:

وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار

فقولها: علم كاف في المقصود وهو تشبيهه بما هو معروف في الهداية، لكنّها أتت بقولها: في رأسه نار إيغالاً وزيادة للمبالغة.

وفسّره قدامة فقال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافية، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعراً أفاد معنىً زائداً على معنى البيت كقول ذي الرمّة:

قف العيس في أطلال ميّة فاسأل ... رسوماً كأخلاق الرسوم المسلسل

أظنّ الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبديد الجمان المفصّل

<<  <   >  >>