[وفيها فصلان]
الفصل الأوّل في المديح
قلت فيه:
عشقت ظماء الوشح لا بل غراثها ... تودُّ الثريا أن تكون رعاثها
من الخرد الوسنانة اللحظ حرّمت ... على العين منّي أن تذوق حثاثها
نشت في خدور عنك فتيان عامر ... حمت بذكور المرهفات إناثها
ومرتبعات في رياض كأنّما ... ندى حسن في واسم منه غاثها
كأخلاقه أزهارها اللاء دبجت ... بوطفاء خلنا من يديه انبعاثها
شأى في المعالي والمكارم والنهى ... فأحرز غايات الفخار ثلاثها
همام به لا قست أبناء عصره ... ومن بالصقور الغلب قاس بغاثها
تراه بنوا الآمال في المحل غيثها ... وعند طروق النائبات غياثها
تردّت ثياب العيش فيه قشيبةً ... وعند سواه قد تردّت رثاثها
من القوم لا تلقى سوى الحمد كسبها ... وليس ترى إلاّ المعالي تراثها
معوَّدة سبق السؤال صلاتها ... فإن هي لم تسبق وإلاّ استراثها
وكم بفتىً لاثت مأزرها العلى ... فما حمدت إلاّ عليه ملاثها
أقول: العشق طمع يتولّد في قلب العاشق وكلّما قوي زاد صاحبه في الإهتياج، واشتغل فكره في الآمال في محبوبه، والحرص على طلبه، واللجاج في محبّته حتّى يؤدّيه ذلك إلى الغم المقلق، وينشؤ عن ذلك فساد الفكر، ومعه يكون زوال العقل ورجاء ما لا يكون، وتمنّي ما لا يتم حتّى يؤدّيه إلى الجنون، فربّما قتل نفسه وربّما مات غمّاً، وربّما رأى محبوبه فمات من الفرح.
واعلم أنّ العشق والهوى والحب وإن كان موردها واحد فقد فرّق فيما بينهما عمرو بن بحر الجاحظ فقال: كلّ عشق يسمّى حبّاً، وليس كلّ حبٍّ يسمّى عشقاً لأنّ العشق اسم لما فضل عن الإقتصاد في الحبّ كما أنّ السرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما قصر عن الإقتصاد، والهوى يتفرّع عن الحب، والحب هو المتولّد من أوّل نظرة، قال بعضهم في ذلك:
الحب أوّله حبٌّ تهيم به ... نفس المحب فيلقى الموت كاللعب
يكون مبدؤه من نظرة عرضت ... وخطرة قدحت في القلب كاللهب
كالنار مبدؤها من قدحة فإذا ... تأجّجت أحرقت مستجمع الحطب
وقال الآخر:
الحب من سمع ومن لحظة ... وفيه أحلاءٌ وإمرار
رأيت نار الحب بين الحشا ... تفعل ما لا تفعل النّار
إن لم تكلّم في الهوى ألسنٌ ... تكلّمت باللحظ أبصار
والحب داء ماله حيلة ... وليس فيه للفتى عار
وقيل: إنّ الحب هو الميل الدائم بالقلب للحبيب ومصاحبته على الدوام، كما قيل:
ومن عجب أنّي أحنُّ إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وكقول الآخر:
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
والحب هو المحبّة، وأحسن الأقوال في اشتقاقها أنّها مشتقّة من حبّة القلب وهي سويداه، وسمّيت بذلك لوصولها إلى حبّة القلب كما قيل مثل ذلك في الشغف، إنّ الحبّ يسمّى شغفاً إذا بلغ شغاف القلب وهو غشاء على القلب رقيق، وكلّ هذه الأوصاف والأحوال بحسب مراتب الحب. فأمّا كون الحب هو المتولّد من أوّل نظرة فقد قالوا أنّ الرجل قد تمرّ به المرأة فيكون ظاهر هيئتها مشاكلاً لطبعه فتتحرّك نفسه وتنبعث همّته وإذا تكرّر نظره إليها زاد حبّه لها، فإن نظرت إليه نظرة فظنَّ أنّ في نظرها جزءً من هوىً له أو أنّ عليها مسحةً من إعجاب به دخل في عداد العاشقين، وقد أجمعوا على أنّ العشق هو الداء العلياء وما له غير وصل الحبيب من دواء، قال مهيار الديلمي:
أشتكيكم وإلى من أشتكي ... أنتم الداء فمن يشفي السقاما
وممّا ورد في وصف العشق ما رواه الهيثم بن عدي قال: أصبت صخرة مكتوب عليها: العشق ملك غشوم، مسلّط ظلوم، دانت له القلوب وانقادت له الألباب، وخضعت له النفوس، فالعقل أسيره، والنظر رسوله، واللحظ لفظه، مستوره غامض، وهو دقيق المسلك، عسر المخرج.