للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أقول: قوله: واللحظ لفظه يشهد بذلك ما قاله البحتري وذلك أنّ السيّد المرتضى روى في الدرر عن يحيى بن البحتري قال: إنّي انصرفت يوماً من مجلس أبي العبّاس محمّد بن يزيد المبرَّد فقال لي أبي البحتري: ما الذي أفدت يومك هذا من أبي العبّاس؟ فقلت: أملى عَلَيّ أخباراً وأنشدني أبياتاً للحسين بن الضحّاك. قال: أنشدني الأبيات، فأنشدته:

كأنّي إذا فارقت شخصك ساعةً ... لفقدك بين العالمين غرب

وقد رمتُ أسباب السلوّ فخانني ... ضميرٌ عليه من هواك رقيب

أغرَّك صفحي عن ذنوب كثيرة ... وغضي على أشياء منك تريب

كأنْ لم يكن في الناس قبلي متيّم ... ولم يك في الدنيا سواك حبيب

إلى الله أشكو إن شكوت فلم يكن ... لشكواي من عطف الحبيب نصيب

فقال: هذا من أحسن الكلام يابني، ثمّ أنشدني لنفسه:

حبيبي حبيب يكتم النّاس أنّه ... لنا حين تلقاه العيون حبيب

يباعدني في الملتقى وفؤاده ... وإن هو أبدى في البعاد قريب

ويعرض عنّي والهوى منه مقبلٌ ... إذا خاف عيناً أو أشار رقيب

فتنطق منّا أعينٌ حين نلتقي ... وتخرس منّا ألسنٌ وقلوب

ثمّ قال: أرو يا بني هذا فإنّه من أحسن الشعر وظريفه.

وقال بعضهم: وقد جعل الدمع كناية تخاطبه بها محبوبته إخفاءً للمحبّة التي بينهما بحيث لا يعلم بهما الوشاة:

ومراعة للبين تحسب أنّها ... قمر على غصن تغيب وتطلع

كتبت إليك على شقائق خدّها ... سطراً من العبرات ماذا أصنع

فأجبتها بلسان حال معرب ... ما في الحيوة مع التفرّق مطمع

وما أحسن قول بعضهم في إخفاء المحبّة وإظهار الصدّ حذر العذال والوشاة:

وخبّرك الواشون أن لا أحبّكم ... بلى وستور الله ذات المحارم

أصدُّ وما الصدّ الذي تعلمينه ... عزاء بنا إلاّ اجتراع العلاقم

حياءً وتقياً أن تشيع نميمةٌ ... بنا وبكم أُفٍّ لأهل النمائم

وإنَّ دماً لو تعلمين جنيته ... على الحيّ جاني مثله غير سالم

أما أنّه لو كان غيرك أرقلت ... صعاد القنا بالراعفات اللهاذم

ولكنّه والله ما طلَّ مسلماً ... كبيض الثنايا واضحات الملاغم

رمين فاقصدن القلوب فلا ترى ... دماً مائراً إلاّ جوىً في الحيازم

إذا هنَّ ساقطن الحديث حسبته ... سقوط حصى المرجان من كفّ ناظم

وقال الطغرائي وقد أبدع غاية الإبداع بنظم يستوقف حسنه العيون والأسماع:

خبّروها أنّي مرضت فقالت ... مرضاً طارفاً شكى أم تليدا

وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا

وأتتني في خيفةً تتشكّى ... ألم الوجد والمزار البعيدا

ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت عَلَيّ عطفاً وجيدا

قال صلاح الدين الصفدي: هذه الأبيات يرشفها السمع مداماً، ويفضلها السامع على العقود نظاما، ويظنّ الشاعر ألفاتها غصوناً، والهمزات عليها حماما.

رَجْعٌ إلى وصف العشق: روي أنّ المأمون قال ليحيى بن أكثم: ما العشق؟ فقال يحيى: سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه، ويتواتر بها نفسه. فقال له تمامة: أسكت يا يحيى! إنّما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد صيداً وأمّا هذه فمن مسائلنا نحن. فقال له المأمون: قل يا تمامة! فقال: العشق جليس ممتع، وأليف مونس، وصاحب مالك، ومالك قاهر مسالكه لطيفة، ومذاهبه متضادّة، وأحكامه جائزة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب في خواطرها، والعيون ونواظرها، والنفوس وآرائها، وأعطي زمان طاعتها، وقياد مملكتها، توارى عن الأبصار مدخله، وغمض عن القلوب مسلكه. فقال المأمون: أحسنت يا تمامة، وأمر له بألف دينار.

أقول: قوله: إنّما عليك أن تجيب في مسألة طلاق الخ تعريض لطيف لأنّه سُئل في هاتين المسألتين وما اهتدي إلى الجواب عنهما، فقد روي في حديث تزويج المأمون ابنته أُمّ الفضل أبا جعفر محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام أنّ يحيى بن أكثم قال للمأمون: أتأذن لي أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟ فقال له المأمون: إستأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: سل إن شئت. قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً؟

<<  <   >  >>