أوفى على الماء كعب ثمّ قيل له ... رد كعب إنّك ورّادٌ فما وردا
فأمّا حاتم فقد تقدّم ذكره، وأمّا النوابغ فمعروفون، وأمّا جرول فهو الحطيئة، وقد تقدّم طرف من أخباره. ويعجبني له هذه الأبيات وهي قوله:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ... ببيداء لم تعرف لساكنها رسما
أخا جفوة فيه من الإنس وحشة ... يرى البؤس فيها من شراسته نعما
تفرّد في شعث عجز إزائها ... ثلاثة أشياخ تخالهم بهما
حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة ... ولا عرفوا للبرّ مذ خلقوا طعما
رأى شبحاً عند العشاء فراعه ... فلمّا رأى ضيفاً تسوّر واهتما
وقال هيا ربّاه ضيفاً ولا قرىً ... بحقّك لا تحرمه تاالليلة اللحما
فقال ابنه لمّا رآه بحيرة ... أيا أبتى اذبحني ويسّر له طعما
ولا تعتذر بالعدم علّ الذي طرى ... يظنّ لنا مالا فيوسعنا ذمّا
فروى قليلاً ثمّ أحجم برهةً ... وإن هو لم يذبح فتاه لقد هما
فبيناهم عنت على البعد عانة ... قد انتظمت من خلف مسحلها نظما
ظماء تريد الماء فانساب نحوها ... على أنّه منها إلى دمها أظمى
فأمهلها حتّى تروّت عطاشها ... وأرسل فيها من كنانته سهما
فخرّت بجوض ذات جحش فتية ... قد اكتنزت لحماً وقد طبّقت شحما
فيابشره إذ جرَّها نحو قومه ... ويا بشرهم لمّا رأوا كلمها يدمى
وباتوا كراماً قد قضوا حقّ ضيفهم ... وما غرموا غرماً وقد غنموا غنما
وبات أبوهم من بشاشته أباً ... لضيفهم والأُمّ من بشرهم أُمّا
[الباب العشرون في قافية الفاء]
[وفيها ثلاثة فصول]
الفصل الأوّل في المديح
قلت في مدحه:
الفتك نافرة الظبا الهيف ... واستوطنت في ربعك المألوف
فانعم بناعمة الشبيبة غضة ... بيضاء ضامية الوشاح رشوف
أبداً يروق العين في وجناتها ... وردٌ ولكن ليس بالمقطوف
هي قبلة صلّى لها غزلي كما ... صلّى ثناي لقبلة المعروف
الماجد الحسن المكارم ملجأ ... العاني الكريث ونجدة الملهوف
قمر زهت منه البسيطة كلّها ... بأشعّ من قمر السماء الموفي
الأزهر الغطريف نجل الأزهر ... الغطريف نجل الأزهر الغطريف
ما راق في صدر النديّ بشاشة ... إلاّ وراع بهيبة ابن غريف
ومقوّم الآراء ثقّفه النهى ... وكذا الرماح تقام بالتثقيف
كرماً يتابع للوفود هباته ... لم يثن في عذل ولا تعنيف
والجود عند سواه أن يعد الندى ... ويميت ذاك الوعد بالتسويف
هو غيث مكرمة وبدر مفاخر ... ومحطّ آمال وأمن مخوف
قولي في هذه المقطوعة:
الأزهر الغطريف نجل الأزهر ... الغطريف نجل الأزهر الغطريف
اشتمل على التكرار، والتكرار هو إعادة الشيء بنفسه لفائدة، ويأتي على وجوه للتنوية بشأن الممدوح كما في بيتنا هذا، وكما في بيت المتنبّي:
العارض الهتنى ابن العارض الهتن ... ابن العارض الهتن ابن العارض الهتن
ومنه إيقاع الجزاء نفس الشرط نحو قولهم: من أدرك الضمان فقد أدرك أي مرعى ليس بعده مرعىً إلى غير ذلك، وإمّا لتقرير المعنى وإمّا لمقارنة تمام الفصل لئلاّ يأتي الكلام متبوراً لطوله، وإمّا ليناط به حكم آخراً وللترغيب أو للترهيب، والحاصل أنّ الوجوه التي يأتي التكرار لأجلها كثيرة ليس هذا الكتاب موضعاً لضبطها، ولا بأس بذكر بعض الشعر في هذا المقام.
قالت ليلى الأخيلية ترثي توبة الحميري:
لنعم الفتى يا توب كنت إذا التقت ... صدور العوالي واستشال الأسافل
ونعم الفتى يا توب كنت ولم تكن ... لتسبق يوماً كنت فيه تجاول
ونعم الفتى يا توب كنت مقدّماً ... على الخيل تمضيها ونعم المنازل
ونعم الفتى يا توب كنت لخائف ... أتاك لكي يحمى ونعم المجامل
ونعم الفتى يا توب جاراً وصاحباً ... ونعم الفتى يا توب حين تناضل
لعمري لأنت المرء أبكي لفقده ... ويكثر تشهيدي له لا أوائل
لعمري لأنت المرؤ أبكي لفقده ... بجدٍّ ولو لامت عليه العواذل
لعمري لأنت المرؤ أبكي لفقده ... ولو لام فيه ناقص الرأي جاهل