للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وروي أيضاً أنّه لمّا أنشد نصيب أبياته، قال له سليمان: أحسنت ووصله ولم يصل الفرزدق، فخرج الفرزدق وهو يقول:

وخير الشعر أكرمه رجالاً ... وشرّ الشعر ما قال العبيد

قال السيّد المرتضى: ولا شبهة في أنّ أبيات الفرزدق مقدّمة في الجزالة والرصانة على أبيات نصيب، وإن كان نصيب قد أبدع وأغرب في قوله: ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب، إلاّ أنّ أبيات نصيب وقعت موقعها ووردت في حال تليق بها، وأبيات الفرزدق جائت في غير وقتها وعلى غير وجهها فلهذا قدّمت أبيات نصيب على أبيات الفرزدق مع تقدّمه في الشعر وبلوغه فيه إلى الذروة العليا والغاية القصوى، وكان شريف الآباء، كريم البيت، له ولآبائه مآثر لا تدفع ومفاخر لا تجحد.

وروي أنّه قيل له: هل حسدت أحداً على شيء من الشعر؟ قال: لا لم أحسد أحداً على شيء منه إلاّ ليلى الأخيليّة في قولها:

ومخرق عنه القميص تخاله ... بين البيوت من الحياء سقيما

حتّى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما

لا تقربنّ الدهر آل مطرف ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما

على أنّي قد قلت: وركب كأنّ الريح تطلب عندهم، وذكر الأبيات المتقدّمة.

قال السيّد المرتضى: وليست أبيات الفرزدق بدون أبيات ليلى بل هي أجزل لفاظاً وأشدّ أسراً إلاّ أنّ أبيات ليلى أطبع وأنصع. وقد كان الفرزدق مشهوراً بالحسد على الشعر والإستكثار لقليله والإفراط في استحسان مستحسنه. وقد روي أنّ الكميت بن زيد الأسدي لمّا عرض على الفرزدق أبياتاً من قصيدته التّي أوّلها:

أتصرّم الحبل حبل البيض أم تصل ... وكيف والشيب في فوديك مشتعل

والأبيات:

لما عبأت لقوس المجد أسهمها ... حيث الجدود على الأحساب تنتضل

أحرزت من عشرها تسعاً وواحدة ... فلا العمى لك من رام ولا الشلل

الشمس أدّتك إلاّ أنّها امرأة ... والبدر أدّاك إلاّ أنّه رجل

حسده الفرزدق وقال له: أنت خطيب، وإنّما سلّم له الخطابة ليخرجه عن أسلوب الشعراء، ولمّا بهره حسن الأبيات وأفرط بها أعابه ولم يتمكّن من دفع فضلها جملة، عدل في وصفها إلى معنى الخطابة. وحسد الفرزدق على الشعر وإعجابه بجيده من أدلّ دليل على حسن نقده له، وقوّة بصيرته فيه، وإنّه كان يطرب للجيّد منه فضل طرب، ويعجب منه فضل عجب. ويدلّ أيضاً على إنصافه فيه وأنّه مستقلّ للكثير الصادر منه فإنّ كثيراً من النّاس قد يبلغ منهم الهوى والإعجاب والإستحسان لما يظهر منهم من شعر أو فضل إلى أن يعموا عن حاسن غيرهم فيستقلّوا منهم الكثير ويستصغروا الكبير، إنتهى.

أقول: وكذا كانت حال أبي عبداة البحتري، فلقد كان معجباً بشعره، تيّاهاً بنظمه، لا يرى فيه فضلاً لغيره عدا أبي تمام، فإنّه كان يقدّمه على نفسه ويسمّيه الشيخ ويقول: ما علمنا أكل الخبز بالشعر سواه. وممّا يدلّ على زهوه بنفسه ما نقل في معاهد التنصيص عن بعضهم قال: كنت عند المتوكّل والبحتري ينشده:

عن أيّ ثغر تبتسم ... وبايّ طرف تحتكم

حتّى بلغ إلى قوله:

قل للخليفة جعفر ... المتوكّل ابن المعتصم

والمجتدى ابن المجتدى ... والمنعم ابن المنتقم

أسلم لدين محمّد ... فإذا سلمت فقد سلم

قال: وكان البحتري من أبغض النّاس إنشاداً يتشادق ويتزاور في مشيه مرّة جانباً ومرّة القهقري، ويهزّ رأسه مرّة وينكّسه أخرى، ويشير بكمّه ويقف عند كلّ بيت ويقول: أحسنت والله، ثمّ يقبل على المستمعين فيقول: مالكم لا تقولون لي أحسنت، هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله. فضجر المتوكّل من ذلك. قال ناقل هذه الحكاية: فأقبل عَلَيّ المتوكّل وقال: أما تسمع يا صيمري ما يقول؟ فقلت: بلى يا سيّدي، فمرني فيه بما أحببت، فقال: بحياتي أهجه على هذا الروي الذي أنشدنيه، فقلت: تأمر ابن حمدون أن يكتب ما أقول، فدعا بقرطاس ودواة وحضرني على البديهة، فقلت:

أدخلت رأسك في حرِ أُمّ ... وعلمت أنّك تنهزم

يا بحتريّ حذار ويحك ... من قضاقضة ضغم

فلقد أسلت بوالديك ... من الهجا سيل العرم

فبأيّ عرض تعتصم ... وبهتكه جفّ القلم

والله حلفة صادق ... وبقبر أحمد والحرم

وبحقّ جعفر الإما ... م ابن الإمام المعتصم

<<  <   >  >>