وأمّا وعليا أبيك، وخلاله الصالحة التي اجتمعت فيك، لا أنت على بعدك، يا نسيج وحدك، ثاني النفس لدي، وثالث عيني بل أعزّ منها عَلَيّ، وما تركت المواجهه رغبة عن المشافهه، ولا المراسله رغبة عن المواصلة، كلاّ بل لعوائق طاريه، وشواغل غير متناهيه، تلهي الحليم عن نفسه، وتنسيه يومه فضلاً عن أمسه، ولولاها:
لنثرت حبّات الفؤاد الوكةً ... ونظمتها شوقاً إليك قريضا
وكتبت إلى أخيه الحاج محمّد رضا بهذه الرسالة وصدّرتها بهذه الأبيات:
أغضَّ النسيم تحمل سلامي ... فحيّ بريّاه دار السلام
سلام محبّ عريق الوداد ... غريق الفؤاد ببحر الغرام
يميت بشوق بياض النهار ... ويحيي بتوق سواد الظلام
وتهفوا نوازع أشواقه ... بلبّ حشاشته المستهام
يطالع بالفكر وجه الحبى ... فيحظى برؤية بدر التمام
حبيب أروح قلبي العليل ... من ذكره بنسيم المدام
وشوقي إلى درّ ألفاظه ... كشوق الرياض لدرّ الغمام
ممّن سكن روحه بمحاني الزوراء، وأقام جسمه بمعاني الفيحاء، إقامة المغترب عن وطنه، اللابث في غير عطنه، لا يملك على الخفوق، أثناء قلبه المشوق، ولا يلقى سمعه إلى نديم، ولو كان من أفصح الأنام، ولا يرتاح إلى مفاكه، ولو كان من ولدان النعيم، عبق الكلام، ولا ينظر إلاّ بعين إنسيّة الأجفان، وحشيّة الإنسان، قد عرفت أماقها الأرق، وأنكرت أحداقها الرفق، لم تفتح على أُناس بصرها، إلاّ استوحشت منه فغضّت عنهم نظرها.
أتأنس في فتح أجفانها ... عيوني في غير إنسانها
ويخلص يوماً لنفسي السرور ... إذا واصلت غير خلصانها
إذاً كذبت في ادّعاء الوداد ... نفسي وما الكذب من شانها
نعم عندها الغدر بعد الوفاء ... هو الكفر من بعد إيمانها
على أنّي لم أبرح مسائي وصباحي، وغدوي ورواحي، وعشيّي وإبكاري، وأصيلي وأسحاري، حرج الصدر، متشعّب الفكر، ملوي الحشاشة على حسرات متعاليه، مطوي الجوانح على زفرات إلى التراقي متراقيه، من لوعة غير ماضيه، أقتل من ماضية الحد، وصبابة كأنّها جمرة ذاكية الوقد، فإذا غشيني الدجى بغياهبه، ورقدت الورى أحصيت عدد كواكبه، بعين ابن شوق نسيت أجفانه الكرى، وإذا نضا الليل عنّي ثياب ظلمائه، وألبسني النهار جلباب ضيائه، أقبلت على نفسي أُعلّلها بوشيك التداني، وأسلى غلّة شوقها بسراب الأماني، فتذمّ من أمسها ما استدبرت، وتحمد من يومها ما استقبلت، حتّى يأكل فم الغروب قرص الشمس، ولم تحصل من الرجاء إلاّ على اليأس، ولمّا لم يبق لي في قوس الآمال منزع، ولا في مطمعات الأماني مطمع، سبرت بعين البصيرة والعقل، مذاهب طرق الوصل، فوجدتها على ثلاثة أنحاء، بين أهل المودّة والإخاء، إمّا بمشاهدة العيان على القرب، أو حضور الحبيب في مهجة المحب، أو بثّ الشوق إليه والوجد، بالمراسلة على البعد، فألفيت أوّلها مستحيلا، بعد أن طلبته بكرة وأصيلا، وأمّا الثاني، فما عداني، وحين وصلت بالنظر طريقها الثالث، وقطعت عن أوّلها قرينة البواعث، وجدت نفسي مقصرةً في عدم إتيانه، لاقتدارها عليه مع شدّة إمكانه فلم أزل أوبّخها في ذلك وألومها، وأعذلها والندم فيما هنالك نديمها، إلى أن تمنّت من شدّة الخجل، لو سبق السيف إليها ذلك العذل، وقد أخرسها الذنب، وأفحمها العتب، لأنّها قطعت لسان عذرها، في شباة هجرها، حيث أنّها وإن طلبت من أنواع المواصلة أطيبها، وأكملها لذّةً وأعذبها، إلاّ أنّ ما لا يدرك أجله، لا يترك أقله، ولكن منها هذه الزلّة، صدرت مع ماجد شابه فرعه أصله، ووصف طيب أخلاقه، كريم أعراقه، ولذلك نهضت بعد كبوتها، بأذيال هفوتها، وسلكت إلى المواصلة، بطريق المراسلة، وإلى المخاطبة بالمكاتبة، ومع ذلك فهي تستمدّ اللطف، وترجو الصفح، وتأمّل قبول العذر والسلام.
وكتبت إليه هذه الرسالة أيضاً:
فما روضة مرشوفة عن عبيرها ... تحدّثن أنفاس الصبا والجنائب
بأطيب عرفاً من سلام بنشره ... يعطّر فاه كلّ راو وخاطب