للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قوم إذا لبسوا الحديد كأنّهم ... في البيض والحلق الدلاص نجوم

ولئن بقيت لأرحلنّ بغزوة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم

يعني بالكريم نفسه، فكأنّه انتزع من نفسه كريماً مبالغةً في كرمه إذ لم يقل أو أموت.

ومنها: ما يكون بطريق الكناية كقول الأعشى:

يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأساً بكف من بخلا

إنتزع من الممدوح جواداً يشرب الكاس بكفّه على طريق الكناية، لأنّه إذا نفى عنه الشرب بكفّ البخيل فقد أثبت له الشرب بكفّ كريم ومعلوم أنّه يشرب بكفّه فهو ذلك الكريم.

ومنها: مخاطبة الإنسان لنفسه وهو أن ينتزع من نفسه شخصاً آخر مثله في الصفة التي سيق لها الكلام يخاطبه، قال أبوالطيب المتنبّي:

لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

وممّا اتّفق لي من الشعر الأجنبي في هذا الباب ما سألني نظمه بعض الأعزّاء على في مدح الشهم الماجد صبحي بك وأسأله بفقرات نثريّة أن يكون واسطة في إيصال قصيدتي الرائيّة في إطراء الصدر الأعظم إليه لمودّة موكّدة بينهما، والفقرات هذه: بنان براعة الفصحاء، ولسان يراعة البلغاء لا ينبسطان للإحاطة بمزايا من أوضح لأهل الفخر نهجه، وهداهم صراطه.

شمس العلا بدر سماء الجلال ... إنسان روح الفضل عين الكمال

الأغرّ الذي إذا أسفر وجهه جائت الشمس تقول: هذا صبحي، والفصيل الذي إذا نطق لسان أقبل الملك يقول لها: هذا سيفي، فإليك عنه تنحّي.

ويدّعيه المجد من بينهما ... لنفسه فيعطيان ماادّعى

وكيف لا يكون كذلك من تستمدّ الشمس من نوره، ويعتضد الملك برأيه في مهمّات أُموره، شهدت معاني بيانه بباهر فضله، ودلّ بديع تبيانه على كمال ظرفه ونبله، وإنّي لمّا آنس فكري على البعد نار ذكائه، ونودي قلبي من جانب طور مجده وعليائه، عرفت أنّ الذي صار قلبي كلّه مستجمعاً لنداه، هو واحد الفضل الذي لا ربّ للكمال سواه، وحيث أنّه يجب في شرع الآداب مدح المتوحّد في الفضل الجامع لصفات الكمال عملت له هذه الحائيّة، ونسجتها حلّةً حليّة، وأهديتها إليه لكن كما تهدى إلى البحر قطرة، وإلى الطود ذرّة، ولا غرو فهي جهد المقلّ، إلى الجواد المكثر المفضل، على أنّي وإن سمّتني الفصاحة حيدر خيسها، ودعتني البلاغة بليث عرّيسها، وكان أبي سليمان عصره، يأتيه بعرض بلقيس المعاني آصف فكره، فيراه مستقرّاً لديه قبل ارتداد طرفه إليه، فأراني لو استخرجت الدراري من نهر المجرّة، ونظمت بكفّ الثريّا أنجم النثره، عقوداً أحلي بها نحور علياه، وأوشح بها حسان مزاياه، لما زدتها بذلك حسنا، ولا أفدت جميل معانيها جميل معنى، بل أكون كمن يقول لماء السحاب: ما أطهرك، ولنور الرياض ما أزهرك.

ولم يستفد بالمدح ماليس عنده ... وهل ينفع التحجيل من هو أشهب

هذا ورجائي من تلك الحضرة، زاده الله نظرة، إيصال هذه الرائيّة الغرّاء (وستأتي في حرف الراء) إلى حضرة صدر الوزراء، وهي وإن كانت حقيرة، في جنب معاليه الخطيرة، فأراها إن شملتها ألطافك بالعنايه، ولحظتها بعين الرعايه، وقعت موقعها لديه، أمّا الحائيّة فهي هذه:

لتلق ملوك الأرض طوعاً يد الصلح ... حذار حسام صاغه الله للفتح

وأجرى فرنداً فيه من جوهر العلى ... غدا بخطف الأبصار باللمع واللمح

فكم شقّ فجراً من دجى ليل حادث ... وأضحك للأيّام من أوجه كلح

لو الدولة الغرّاء يوماً تفاخرت ... مع الشمس قالت أين صبحك من صبحي

فتىً في صريح المجد ينمي لمعشر ... بيوتهم في المجد سامية الصرح

فتىً ولدت منه النجابة حازماً ... بعيد مجال يرفد الملك بالنصح

أغرّ لسيماء العلى في جبينه ... سناً في حشا الحسّاد يذكي جوى البرح

له طلعة غرّاء دائمة السنا ... هي الشمس لو تمسي هي البدر لو يضحي

هو البحر لا بل يشبه البحر جوده ... وهل يستوي العذب الفرات مع الملح

يزوّج آمال العفاة بجوده ... ويقرنه في الحال في مولد النجح

ويبسط كفّاً رطبةً من سماحة ... إذا قبض اليبس الأكفّ من الشحّ

أرى المدح للأشراف أفضل زينة ... ولكنّه في فضله شرف المدح

هو السيف لا بل يفعل السيف فعله ... بقوم على الأضغان مطويّة الكشح

<<  <   >  >>