للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على أنّ في هذين البيتين ما فيهما من التعليق والمقابلة المعنويّة التي لا تخفى على أولي التحقيق، وهي أنّه لمّا أتى بذكر الخفض في البيت الأوّل قابله بضدّه معنىً في البيت الثاني وذلك قوله: ثبير اتّكى على جنب الوثير، من حيث أنّ ثبير هو الجبل، والجبل من شأنه أن يكون مرتفعاً، فقابل الخفض لفظاً بالرفعة معنىً ليكون حسن نظامه مبتدعاً، وكذلك لمّا ذكر في البيت الأوّل أنّه يبسم للوفد، قابله بهيبة الأسد الورد، من حيث أنّ الإبتسام أمنٌ للقلب، والمهابة مخافة له ورعب، وهذا النوع عند علماء البديع يُسمّى: الملحق بالطباق وهو الراجع عند الجمهور إلى الضدّين كقوله تعالى: (أَشدّاءُ على الكفّار رُحماءُ بَيْنَهُمْ) فإنّه تعالى شأنه طابق الأشدّاء بالرحماء لأنّ الرحمة فيها معنى اللين، وكقول بعض شعراء الحماسة:

لهم جلُّ مالي أن تتابع لي غنىً ... وإن قلّ مالي لا أُكلّفهم رفدا

فقوله: تتابع مالي بمعنى كثر مالي، ويقابله قولي: قلّ مالي فهو مقابلة من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، وكقول أُمّ سعد بن قرط وقد تزوّج امرأةً كانت نهته عنها فقالت أبياتاً تذمّها، وهي من شعراء الحماسة:

تربّص بها الأيّام علَّ صروفها ... سترمي لها في جاحم متسعّر

فكم من كريم قد مناه إلهه ... بمذمومة الأخلاق واسعة الحر

فقولها: بمذمومة الأخلاق ليس مقابلاً لقولها: واسعة الحر من جهة اللفظ، بل من حيث المعنى لتأوّله بضيقة الأخلاق لتصحّ المقابلة، ونظائره كثيرة على أنّ في القصيدة من نظائر هذا التعليق الصعب التخميس ما يخرس الفصحاء، ويحير البلغاء، وقد أضربت صفحاً عن ذكره خوف الإطالة، واكتفيت عنه بما قدّمته في هذه المقالة ومع ذلك فقد أقدمت بتخميسها على مجاراته، ومقابلة بدايعه ومخترعاته، وقلت: ما يمنعني عنه وقد أنحلني أدبه، وشربت من نطاف هذا النظام مشربه، فكنت وإيّاه في إطرادنا فيها كما قالت الخنساء في مساواة أخيها لأبيها:

جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملائه الحضر

حتّى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر

وعلا هتاف الناس أيّهما ... قال المجيب هناك لا أدري

برزت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري

أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر

وهما كأنّهما وقد برزا ... صقران قد حطّا إلى وكر

فجاء تسميطاً ترتاح له أهل الأدب والفضل، وتعجّب منّي إذ حذوت فيه حذو الأصل، فلو لم يكن تسميطاً لما فرق من نظامه، ولا من حسن لامه، ولقيل إنّهما نتيجة فكر واحد، لعدم التمييز بين تلك الفرائد، ولا غرو إن حذوت مثاله، وشابهت أقوالي أقواله، فإنّ من حياضه مشربي، ومن أدبه كان أدبي، فترانا حربين بقول المؤمّل بن أميل الكوفي:

وجئت ورائه تجري حثيثاً ... وما بك حيث تجري من فتور

وقال الناس ما من ذين إلاّ ... بمنزلة الخليق من الجدير

فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير

وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير

وهذا هو التخميس المذكور، فانظر في ألفاظه ومعانيه، فإنّها أعدل شاهد على ما أدّعيه، وصلّى الله على محمّد وآله.

إذا عنَّ لي برقٌ يُضيء على البعد ... نزت كبدي من شدّة الشوق والوجد

وناديت معتلَّ النسيم بلا رشد ... نسيم الصبا استنشقت منك شذى الندّ

أهل سرت مجتازاً على دمنتي هندي

وهل لسيم الحبّ أقبلت راقياً ... بنشر فتاة الحيّ إذ كان شافيا

فما كنت إلاّ للصبابة داعيا ... فذكرتني نجداً وما كنت ناسيا

ليال سرقناها من الدّهر في نجد

نواعم عيش مازج الأُنس زهرها ... رطاب أديم خالط المسك نشرها

رقاق حواش قرّب الوصل فجرها ... ليال قصيرات وياليت عمرها

يمدُّ بعمري فهو غاية ما عندي

رياح الهوى فيها تنشقت عرفها ... وفيها مدام اللهو عاقرت صرفها

لدى روضة لا يبلغ العقل وصفها ... بها طلعت شمس النهار فلفّها

ظلامان من ليل ومن فاحم جعد

سوادان يعمى الفجر عند دجاهما ... هما اثنان لكن واحد منتماهما

أتت تتخفّى خفية في ذراهما ... ولو لم تبرقع خدّها ظلمتاهما

<<  <   >  >>