للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لو أنّ قصرك يابن يوسف ممتل ... اُبراً يضيق بها فضاء المنزل

وأتاك يوسف يستعيرة إبرةً ... ليخيط قدَّ قميصه لم تفعل

ومن ذلك ما حكي أنّه حضر أعرابي سماط هشام بن عبد الملك، فبينما هو يأكل إذ تعلّقت شعرة بلقمته، فقال له هشام: يا أعرابي نحّ الشعرة عن لقمتك، قال: إنّك لتكثر لمضغي ملاحظة حتّى ترى الشعرة في اللقمة، والله لا أكلت عندك أبداً، وخرج من عنده وهو يقول:

وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف البنان على عمد

وروي ما هذا مضمونه أنّه قيل لبعض البخلاء: من أشجع النّاس؟ قال: من سمع صرير الأسنان على طعامه ولم تتفتّت كبده.

ومن ذلك ما حكي عن أبي القاسم القطّان وكان صاحب نوادر أنّه دخل يوماً من أيّام شهر رمضان والحرُّ شديد على الوزير ابن هبيرة وعنده نقيب الأشراف، فقال له: أين كنت؟ قال: في مطبخ سيّدي النقيب، فقال الوزير: وما تصنع ويلك في شهر رمضان في المطبخ؟ قال: وحياة مولانا كسرت الحرّ، فتبسّم والوزير وضحك الحاضرون وخجل النقيب.

أقول: وقد أسهبنا في ذلك فلنورد بعض ما ورد في ذمّ البخل والبخلاء من رائق النظم.

روي ما هذا مضمونه أنّ شريك بن عبد الله امتدح المدبّر بأبيات فردّها إليه مع الحاجب وقال: أمدح بها غيري، فاعتزل ناحية عن بابه وكتب إليه هذه الأبيات:

رددت عَلَيّ شعري بعد مطل ... وقد دنّست ملبسه الجديدا

وقلت امدح به من شئت غيري ... ومن ذا يقبل المدح الرديدا

ولاسيما وقد أعبقت فيه ... مخازيك اللواتي لن تبيدا

وهل للحيّ في أثواب ميت ... لبوس بعد ما امتلأت صديدا

وقال أبو تمام:

ليسودنَّ يفاع وجهك منطقي ... أضعاف ما سوّدت وجه قصيدي

وليفضحنّك في المواسم كلّها ... صدري كما فضحت يداك ورودي

وقال أيضاً:

عيّاش أنّك للئيم وانّني ... إذ صرت موضع حاجتي للئيم

وقال مهيار:

بخيلٌ لو أنّ البحر بين بنانه ... وفرّقها عن قطرة لم تسرَّب

أخذه بعضهم فقال:

لو عبر الشط أبو ساعده ... في ليلة مظلمة بارده

وكفّه مملوئة خردلاً ... ما سقطت منها ولا واحده

وقال البحتري:

لو صافحوا المزن ما ابتلّت أكفّهم ... ولو يخوضون بحر الصين ما غرقوا

جفوا من البخل حتّى لو بدا لهم ... ضوء السهى في سواد الليل لاحترقوا

وقال كشاجم:

يا من يؤمّل جعفراً ... من بين أهل زمانه

لو أنّ في أُستك درهماً ... لاستلّه بلسانه

وقال دعبل الخزاعي:

إنّ هذا الفتى يصون رغيفاً ... ما إليه لناظر من سبيل

هو في سفرتين من أدم الطا ... ئف في سلنين في منديل

ختمت كلّ سلّة بحديد ... وسيور قددن من جلد فيل

في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند إسرافيل

وقال بعضهم:

فتىً لو أدخل الحمّام حولاً ... وحولاً بعد أحوال كثيره

وألبس ألف فرو بعد فرو ... ولحفاً حشوها قطن الجزيره

وواقدت الجحيم عليه حتّى ... تصير عظامه مثل الذريره

لما عرقت أنامله لبخل ... بعشر عشير معشار العشيره

وقال ابن الرومي:

فتىً على خيره ونائله ... أشفق من والد على ولده

رغيفه منه حين تسأله ... مكان روح الجبان من جسده

وقال بعضهم وهو لطيف:

عوَّذ لمّا بتُّ ضيفاً له ... أقراصه منّي بياسين

وعوّذ الماء بسمر القنا ... وبالأفاعي والثعابين

وظريف قول بعضهم:

ابا سعيد لنا في شاتك العبر ... جائت وما أن لها بولٌ ولا بعر

وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان الشمر والقمر

وقال بعض الأُدباء:

ويسرع بخل المرء في هتك عرضه ... ولم ير مثل الجود للعرض حارسا

وقال البحتري:

أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح في فرط إعجابه

ولا في فراهة برذونه ... ولا في نظافة أثوابه

ولكنّه في الفعال الكريم ... والخطر الأشرف ألنابه

رأيتك تهوي اقتناء المديح ... وتسهل مقدار إيجابه

لئن كنت أنحله الأكرمين ... فما أنت أوّل أربابه

وإنْ أتطلّب به نائلاً ... فلست مليّاً بأطلابه

<<  <   >  >>