فقد اكتنفه الجود من أمه وأبيه.. وقالت امرأته النوار: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء وضنت المراضع عن أولادها فما تبض بقطرة فأيقنا بالهلاك، فوالله إني لفي ليلة صبيرة بعيدة الطرفين إذ تضاعى صبيتنا جوعا، عبد الله وعدي وسفانة، فقام إلى الصبيين وقمت إلى الصبية فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تغورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت فقال من هذا فقالت جاريتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون من الجوع عواء الذئب فما وجدت معلولا إلا عليك أبا عدي، فقال اعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم فأقبلت تحمل اثنين ويمشي إلى جانبها أربعة كأنها نعامة حولها رثالها، فقام إلى فرسه فوجا لبتها بمدية فخرت ثم كشط الجلد ودفع المدية إلى المرأة وقال: شأنك. فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يأتيهم بيتاً بيتاً ويقول هبوا أيها القوم عليكم بالنار فاجتمعوا، والتف في ثوبه ناحية ينظر إلينا والله إن ذاق منها مزعة، وإنه لأحوج إليها منا فأصبحنا وما على الأرض منها إلا عظم وحافر فأنشأ يقول:
مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقول لشيء فات ما فعلا
ولا تقولي لشيء كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت معطي العنس والجملا
يرى البخيل سبيل الماء واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
ولم يكن يمسك شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه فإنه كان لا يجود بهما.. وذكر الحريري أن عقيلا تمثل بقول حاتم: شنشنة أعرفها من أخزم.
- ٤ - ويروى أن الحكم بن أبي العاص خرج ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليها الناس كل سنة، فمر في طريقه بحاتم بن عبد الله الطائي، فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره، ثم أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت، ثم دعاهم إلى الطعام فأكلوا ولما فرغوا من الطعام طيبهم الحكم من طيبه.
وكان النعمان بن المنذر قد جعل لبني لام ربع الطريق طعمة لهم، لأن بنت سعد بن حارثة بن لأم كانت عنده ومر سعد بن حارثة بحاتم ومعه قومه من بني لام، فوضع حاتم سفرته وقال: اطعموا حياكم الله! فقالوا: من هؤلاء الذين معك يا حاتم؟ قال هؤلاء جيراني. قال له سعد: فأنت تجير علينا في بلادنا! قال له: أنا ابن عمكم وأحق من لم تخفروا ذمته. فقالوا: لست هناك! وأرادوا أن يفضحوه، ووثبوا إليه وتناول سعد حاتماً، فأهوى له حاتم بالسيف، وأطار أرنبة أنفه، ووقع الشر حتى تحاجزوا ثم قالت بنو لام لحاتم: بيننا وبينك سوق الحيرة فنماجدك، ثم وضعوا تسعة أفراس رهناً ووضع حاتم فرسه رهناً عند رجل من كلب وخرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة. وسمع بذلك إياس بن قبيصة الطائي فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر ويقويهم بماله وسلطانه للصهر الذي بينهم وبينه فجمع رهطه من بني حية، وقال: يا بني حية إن هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مماجدته، فقال رجل منهم: عندي ناقة سوداء ومائة ناقة حمراء أدماء، وقام آخر فقال: عندي عشرة حصن على كل حصان منها فارس مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وقال حسان بن جبلة الخير: قد علمتم أن أبي قد مات وترك خيراً كثيراً، فعلى كل خمر ولحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة، ثم قام إياس فقال: على مثل جميع ما أعطيتم كلكم - وحاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا.
وذهب حاتم إلى ابن عمه وهم بن عمرو، وكان مصارماً له لا يكلمه فقالت له امرأته: أي وهم، هذا والله أبو سفانة حاتم قد طلع. فقال: ما لنا ولحاتم! أثبتي النظر. فقالت: ها هو. قال: ويحك! هو لا يكلمني، فما جاء به إلي؟ ثم نزل حتى سلم عليه فرد سلامه وحياه ثم قال له: ما جاء بك يا حاتم؟ قال: خاطرت على حسبك وحسبي. قال في الرحب والسعة، هذا مالي وعدته تسعمائة بعير فخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد.
ثم إن إياس بن قبيصة قال لقومه: احملوني إلى الملك، وكان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه فقال: أنعم صباحاً أبيت اللعن! فقال النعمان: وحياك إليهك. فقال إياس: أنمد أختانك بالمال والخيل وجعلت بني ثعل في قعر الكنانة! أظن أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين لم يشعروا أن بني حية بالبلد؟ فإن شئت والله ناجزناك حتى يسفح الوادي دماً فليحضروا مجادهم غداً بمجمع العرب.