وحدثت ماوية امرأة حاتم أن الناس أصابتهم سنة فأذهبت الخف والظلف فبتنا ذات ليلة بأشد الجوع فأخذ حاتم عديا وأخذت سفانة فعللناهما حتى ناما، ثم أخذ يعللني بالحديث لأنام، فرققت لما بعد من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة، فقال لي أنمت مراراً فلم أحبه، فسكت ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه، فإذا امرأة تقول: يا أبا سفانة قد أتيتك من عند صبية جياع. فقال أحضريني صبيانك فوالله فأشبعنهم. قالت: فقمت سريعاً فقلت بماذا يا حاتم فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقام إلى فرسه فذبحه ثم أجج ناراً وقال اشتوى وكلي وأطعمي ولدك. وقال لي أيقظي صبيتك فأيقظتهم، ثم قال والله إن هذا للؤم أن تأكلوا وأهل الصرم حالهم كحالكم فجعل يأتي الصرم بيتاً بيتاً ويقول: عليكم النار فاجتمعوا وأكلوا وتقنع بكسائه وقعد ناحية حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير ولم يذق منه شيئا.
- ٢ - ولحاتم الطائي شعر كثير وهو من البلاغة بمكان، والمذكور في ديوانه بعض منه ومن شعره يخاطب امرأته ماوية بنت عبد الله:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمس له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذ مات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف مادام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيمة العبد
عني بذي البردين عامر بن أحيمر بن بهدلة. وكان من حديث البردين حين لقب به أن الوفود اجتمعت عند المنذر بن ماء السماء وهو المنذر بن امرئ القيس، وماء السماء قيل أمه، نسب إليها لشرفها، وقيل لقبت بماء السماء لصفاء نسبها ويقال لنقاء لونها، ويراد أنها كماء السماء لم يحتمل كدورة. وأخرج المنذر بردين يوما يبلو الوفود، وقال ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما، فقام عامر بن أحيمر فأخذهما وائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر. فقال له المنذر: أأنت أعز العرب قبيلة؟ قال العز والعدد في معد، ثم في نزار ثم في مضر، ثم في خندف ثم في تميم، ثم في سعد ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينافرني. فسكت الناس، فقال المنذر هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك؟ فقال أنا أبو عشرة وأخو عشرة وخال عشرة، وعم عشرة، وأما أنا في نفسي فشاهد العز شاهدي ثم وضع قدمه على الأرض فقال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل؟ فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، ففاز بالبردين.
ومن شعر حاتم أيضاً قوله:
وعاذلة قامت علي تلومني ... كأني إذا أعطيت مالي أضيمها
أعاذل أن الجود ليس بمهلكي ... ولا مخلد النفس الشحيحة لومها
وتذكر أخلاق الفتى وعظامه ... مغيبة في اللحد بال رميمها
ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها
ومن ذلك قوله أيضاً:
أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف أصحابي حين حاجتنا معا
أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا
وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
وانك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقال أيضاً:
أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحيي العظام البيض وهيم رميم
لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم
وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم
وقال أيضاً:
ولما رأيت الناس هرت كلابهم ... ضربت بسيفي ساق أفعى فخرت
وقلت لأصباء صغار ونسوة ... بشهباء من ليل الثمانين قرت
عليكم من الشطين كل ورية ... إذا النار مست جانبيها أرمعلت
وقال أيضاً:
لا تشتري قدري إذا ما طبختها ... على إذا ما تطبخين حرام
ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إذا أوقدت لا بضرام
وقال أيضاً:
وقائلة أهلكت بالجود مالنا ... ونفسك حتى ضربت نفسك جودها
فقلت دعيني إنما تلك عادتي ... لكل كريم عادة يستعيدها