وهو القاتل لغلامه يسار، وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد ناراً في بقاع من الأرض، لينظر إليها من أضل الطريق ليلا فيصمد نحوه:
أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا واقد ريح صر
عل يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر
وقال أيضاً:
أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتنا في طلابكم العذر
أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر
أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً حل في مالي النذر
أماوي لا يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أماوي إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
ترى إن ما أنفقت لم يك ضرتي ... وأن يدي مما بخلت به صفر
إذا أنا دلاني الذين بلونني ... بمظلمة لج جوانبها غبر
وراحوا سراعا ينفضون أكفهم ... يقولون قد أدمى أظافرنا الحفر
أماوي إن المال مال بذلته ... فأوله شكر وآخره ذكر
وقد يعلم الأقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر
ولا أظلم ابن العم إن كان إخوتي ... شهودا وقد أودى باخوته الدهر
غنينا زمانا بالتقصد والغنى ... وكل سقانا وهو كاسينا الدهر
فما زادنا مأوى على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحلامنا الفقر
وله قصيدة طويلة تتعلق بالكرم ومكارم الأخلاق، وهي مسطورة في الخماسة البصرية وغيرها.. وهي هذه:
وعاذلتين هبتا بعد هجعة ... تلومان متلافا مفيدا ملوما
تلومان لما غور النجم ضلة ... فتى لا يرى الإنفاق في الحمد مغرما
فقلت وقد طال العتاب عليهما ... وأوعدني تماني أن تبينا وتصرما
ألا لا تلوماني على ما تقدما ... كفى بصروف الدهر للمرء محكما
فإنكما لا ما مضى تدركانه ... ولست على ما فاتني متندما
فنفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى مدى الدهر مكرما
أهن للذي تهوى البلاد فإنه ... إذا مت كان المال نهبا مقسما
ولا تشقين فيه فيسد وارث ... به حين تغشى أغبر الجوف مظلما
يقسمه غنما ويشرى كرامة ... وقد صرت في خط من الأرض أعظما
قليلا به ما يحمدنك وارث ... إذا نال مما كنت تجمع مغنما
تحلم عن الأدنين واستبق ودهم ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلما
وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذمي أود قومته فتقوما
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
ولا أخذل المولى وإن كان خاذلا ... ولا أشتم ابن العم إن كان مفحما
ولا زادني عنه منأى تباعدا ... وإن كان ذا نقص من المال مصرما
وليل بهيم قد تسربلت هوله ... إذا الليل بالنكس الدنيء تجهما
ولن يكسب الصعلوك حمداً ولا غنى ... إذا هو لم يركب من الأمر معظما
لحا الله صعلوكا مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوساً ومغنما
ينام الضحى حتى إذا نومه استوى ... تنبه مثلوج الفؤاد مورما
مقيم مع المثرين ليس ببارح ... إذا نال وجدي من الطعام ومجثما
ولله صعلوك يساور همه ... وتمضي على الأحداث والدهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شبعة إن نالها عد مغنما
إذا ما رأى يوماً مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما
ويغشى إذا ما كان يوم كريهة ... صدور العوالي فهو مختضب دما
يرى رمحه ونبله ومجنه ... وذا شطب عضب الضريبة مخذما
وأحناء سرج قاتر ولجامه ... عتاد فتى هيجا وطرفا مسموما
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفاً مذمما
وعلى الجملة فشعر حاتم صوره لنفسه وأخلاقه وجوده، ولذلك قال ابن الأعرابي: جوده يشبه شعره.
وهو غزير البحر، فياض بالأمثال والحكم والمعاني المتصلة بالجود واللوم عليه وما يتصل به من جمال الذكر وحسن الأحدوثة.
وقد ترى بعض التفاوت في شعره، وذلك إنما يرجع إلى كثرة المدسوس عليه، وجمع شعره في ديوان طبع بلندن وبيروت. وتوفي حاتم نحو سنة ٤٥ ق. هـ.
- ٣ -