للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويقول فيه الشريشي في شرح المقامات: أبو عدي فارس شاعر جاهلي أحد الأجواد الذين يضرب بهم المثل بل هو أشهر منهم، وهم كعب بن أمامة وهرم بن سنان وحاتم، وكان إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب وإذا سئل وهب وإذا قامر سبق وإذا أسر أطلق وإذا أثر أنفق ويقال إنه لا يعرف ميت قرى أضيافه إلا هو وذلك أن ركباً من العرب نزلوا بموضع قبره وقد نفذ زادهم وفيهم رجل يكنى أبا خيبري فجعل يقول: أبا سفانة أما تقرى أضيافك أبا سفانة إن أضيافك جياع، ويعيدها، فلما نام ثار من نومه وهو يقول: وا راحلتاه عقرت والله ناقتي، فقال له أصحاب: وكيف؟ قال رأيت أبا سفانة قد انشق عنه قبره فاستوى قائماً ينشدني:

أبا خيبري لأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة لوامها

وماذا تريد إلى رمة ... بداوية صخب هامها

أتبغي أذاهم وأسعارها ... ودونك طي وأنعامها

ثم عمد إلى سيفي فانتضاه من غمده وعقر ناقتي وقال: دونكم فما أيقظني إلا رغاؤها، وإذا الناقة ترغو ما تنبعث، فقالوا قد والله قراك حاتم. فنحروها وأكلوا وتزودوا واقتسموا متاع أبي خيبري واستمروا لوجهتهم فلما صاروا في الظهيرة وضح لهم راكب يجنب بعيرا يؤم سمتهم حتى التقوا فقال لهم أفيكم أبو خيبري؟ قالوا نعم، فقال فإن عدي بن حاتم رأى أباه البارحة وهو يقول إن أبا خيبري وأصحابه استقروني فقريتهم ناقته فعوضه منها وزده بكرا يحمل عليه متاعه وهذه الناقة وهذا البكر فارتحل أبو خيبري الناقة وتخفف هو وأصحابه من أزوادهم على البكر ومضوا بأتم قرى.. وأدرك عدي ابنه النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وكان يحدث أصحابه بهذا الحديث بعد إسلامه.. وقال الشاعر في عدي:

أبوك أبو سفانة الخير لم يزل ... لدن شاب حتى مات في الخير راغبا

قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبر قبله الدهر راكبا

وكانت سفانة بنته من أجود نساء العرب وكان أبوها يعطيها الصرمة من إبله فتهبها وتعطيها للناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الغويين إذا اجتمعا في المال أتلفاه فإما أن أعطي وتمسكي وإما أن أمسك وتعطي فإنه لا يبقى على هذا شيء. فقالت والله لا أمسك أبدا. قال وأنا لا أمسك أبدا، قالت فلا نتجاور، فقاسمها ماله وتباينا.. وحكي أن أمه كانت من أسخى الناس وأقراهم للضيف وكانت لا تحبس شيئاً تملكه، وهي عتبة بنت عفيف بن عمرو بن عبد القيس، فلما رأى إخوتها إتلافها حجروا عليها ومنعوها مالها حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها سرمة من إبلها، فجاءتها امرأة من هوازن تسألها، فقالت دونك الصرمة فخذيها فوالله لقد عضني من الجوع مالا أمنع بعده سائلا أبدا.. ثم أنشأت تقول:

لعمري لقد ما عضني الجوع عضة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا

فقولا لهذا اللائم اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا

فماذا عسيتم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان معانا

وهل ما ترون اليوم إلا طبيعة ... وكيف بتركي ياابن أم الطبائعا؟

فقد اكتنفه الجود من أمه وأبيه.. وقالت امرأته النوار: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء وضنت المراضع عن أولادها فما تبض بقطرة فأيقنا بالهلاك، فوالله إني لفي ليلة صبيرة بعيدة الطرفين إذ تضاعى صبيتنا جوعا، عبد الله وعدي وسفانة، فقام إلى الصبيين وقمت إلى الصبية فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تغورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت فقال من هذا فقالت جاريتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون من الجوع عواء الذئب فما وجدت معلولا إلا عليك أبا عدي، فقال أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم فأقبلت تحمل اثنين ويمشي إلى جانبها أربعة كأنها نعامة حولها رثالها، فقام إلى فرسه فوجا لبتها بمدية فخرت ثم كشط الجلد ودفع المدية إلى المرأة وقال: شأنك. فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يأتيهم بيتاً بيتاً ويقول هبوا أيها القوم عليكم بالنار فاجتمعوا، والتف في ثوبه ناحية ينظر إلينا والله إن ذاق منها مزعة، وإنه لأحوج إليها منا فأصبحنا وما على الأرض منها إلا عظم وحافر فأنشأ يقول:

مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقول لشيء فات ما فعلا

<<  <   >  >>