فلما عرض عليه الأسرى نهضت من بين القوم سفانة بنت حاتم، فقالت: يا محمد، هلك الوالد، وغاب المرافد. فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب! فإن أبي كان سيد قومه، يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي!.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه. خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. ثم قال: "ارحموا عزيزاً ذل، وغنياً افتقر، وعالماً ضاع بين جهال". وامتن عليها بقومها فأطلقهم تكريماً لها.
فاستأذنته في الدعاء له، فأذن لها. وقال لأصحابه: اسمعوا وعوا. فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلا لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردها عليه.
فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي وهو بدومة الجندل، فقالت له: يا أخي إيت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله. فإني قد رأيت هديا ورأيا سيغلب أهل الغلبة. ورأيت خصالا تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، فإن يكن نبياً فللسابق فضله، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز ملكه، فقدم عدي إلى رسول الله فأسلم، وأسلمت سفانة!.
- ٦ - ويروى أن عبد قيس بن خفاف البرجمي أتى حاتم طيء في دماء حملها عن قومه، فأسلموه فيها، وعجز عنها، فقال: والله لآتين من يحملها عني. وكان شريفاً شاعراً شجاعاً.
فلما قدم عليه قال: إنه وقعت بيني وبين قومي دماء فتواكلوها، وإني حملتها في مالي وأهلي، فقدمت مالي وأخرت أهلي، وكنت أملي، فإن تحملتها فرب حق قد قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائم لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك، ثم أنشأ يقول:
حملت دماء للبراجم جمة ... فجئتك لما أسلمني البراجم
وقالوا سفاهاً: لم حملت دماءنا ... فعلت لهم: يكفي الحمالة حاتم
متى آته فيها يقل لي مرحباً ... وأهلا وسهلا أخطأتك الأشائم
فيحملها عني، وإن شئت زادني ... زيادة من جلت عليه المكارم
يعيش الندى ما عاش حاتم طيء ... فإن مات قامت للسخاء مآتم
ينادين: مات الجود معك فلا ترى ... مجيبا له ما حام في الجو حائم
وقال رجال: أنهب العام ماله ... فقلت لهم: إني بذلك عالم
ولكنه يعطى من أموال طيء ... إذا جلف المال الحقوق اللوازم
فيعطى التي فيها الغنى وكأنه ... لتصغيره تلك المطية جارم
بذلك أوصاه عدي وحشرج ... وسعد وعبد الله تلك القماقم
فقال له حاتم: إني كنت لأحب ن مثلك من قومك، هذا مرباعي من مغارة على بني تميم خذه وافرا، فإن وفى بالحمالة، وإلا كملتها لك، وهو مائنا بعير سوى نيبها وفصالها، مع أني لا أحب أن تؤبس قومك بأموالهم.
فضحك أبو جبيل، وقال: أي بعير دفعته إلي، وليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء، فدفعها إليه وزاده مائة بعير فأخذها وانصرف راجعاً إلى قومه، فقال حاتم في ذلك:
أتاني البرجمي أبو جبيل ... لهم في حمالته طويل
فقلت له: خذ المرباع منها ... فإني لست أرضى بالقليل
على حال ولا عودت نفسي ... على علاتها علل البخيل
فخذها إنها مائنا بمير ... سوى الناب الرذية والفصيل
فلا من عليك بها، فإني ... رأيت المن يزرى بالجميل
فآب البرجمي وما عليه ... من أعباء الحمالة من فنيل
يجر الذيل ينفض مذرويه ... خفيف الظهر من حمل ثقيل!
- ٧ - وقالت ماوية امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبر أفق السماء وراحت الإبل حدبا حدابير، وضنت المراضع على أولادها، فما تبض بقطرة، وحلقت ألسنة المال، وأبقنا بالهلاك. فوالله أنا لفي ليلة صنبر، بعيدة مابين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعاً: عبد الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت أنا إلى الصبية، وأقبل يعللني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت.