فلحقت المنخل غيرة، فقال للنعمان: ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلا من عرف. فحقد النعمان على النابغة وعلم بذلك فخافه وهرب. وقيل إن النابغة وصف امرأة بقصيدته "يا دار مية بالعلياء فالسند" فوشى للنعمان أنه يعني زوجته المتجردة.. وأياً ما كان فقد كان لوشايات خصوم النابغة أثرها في تغير قلب النعمان وسخطه عليه، فهرب وأتى قومه، ثم شخص إلى ملوك غسان بالشام، وكانوا أعداء لملوك الحيرة، فاتصل النابغة بعمرو بن الحارث الأصغر ملك غسان ومدحه ومدح أخاه النعمان وظل لديه حتى مات، وملك أخوه النعمان، فأقام عنده أثيراً لديه. ولكنه كان يحن إلى بلاط النعمان بن المنذر ملك الحيرة، ويرسل إلى الملك قصائد من اعتذارياته الرائعة يتبرأ فيها مما رمى به ويعتذر مما كان. وتوالت اعتذاراته على النعمان فعفا عنه فعاد إليه وعاشره في الحيرة.. ويقال أن النابغة استجار ببعض المقربين لدى النعمان فكلموه في شأنه، حتى أمنه وأمر له بمائة بعير. ويقال أن النابغة علم بمرضه فلم يملك صبره وسار إليه فألفاه في مرضه فمدحه. ثم عوفي النعمان فأمنه وأقام عنده، وظل النابغة عظيماً شريفاً مكرماً عند الملوك والأمراء، وتوفي عام ٦٠٤ م.
- ٢ - وفي الأغاني ترجمة طويلة له، وكذلك في الشعر والشعراء لابن قتيبة كما عرض له ابن سلام في طبقات الشعراء، وكذلك شعراء النصرانية، وكذلك صاحب كتاب تاريخ الأدب في العصر الجاهلي، وأخرج الأستاذ عمر الدسوقي كتاباً عنه، كما نشر عدد عنه في سلسلة "الروائع".. وعرض له صاحب الجمهرة، والمرزباني في الموشح، وكثير من العلماء، كما كتب عنه الزيات وجورجي زيدان وأصحاب الوسيط والمفصل، وسواهم.
وشعر النابغة لطيف رقيق إذا تملكته عاطفة قوية من إشفاق أو حماسة أو رهبة كما ترى في أهاجيه ومدائحه واعتذارياته، وقيل عنه أشعر الناس إذا رهب وهو في اعتذارياته حزين عميق الحزن قلق مضطرب يداخله التشاؤم واليأس الشديد ذلك كله لأن خيال الشاعر دقيق واسع، يسمو إلى درجة عالية في إكمال الصورة وإيضاح المشابهات، يتوسع بالتشبيه، ويفسح له خياله المجال في التصوير، كما في وصفه للفرات أو لغيره.
وتمتاز معانيه بالدقة والانسجام والتآلف والصدق والقرب من العقل والبعد عن التعقيد والغموض، مع مراعاة المخاطبين، ومع البصر بمواقع الكلام.
وقد أجاد النابغة في المدح والاعتذار والعزل والفخر إجازة بالغة كما أجاد في الوصف والرثاء والحكمة إجادة دون ذلك.
وأسباب إجادته في المدح معروفة منها حب المال، وخصب الخيال، وقوة الذكاء، وميله إلى التجويد والتنقيح، والتهذيب إلى غير ذلك من الأسباب.
وإجادته في الاعتذار كذلك كان الباعث عليها الرهبة والخوف مع الرغبة والأمل. أما الوصف فقد أجاد في بعض دون البعض الآخر، فأجاد في وصف الثور والوحش والفرات وما إلى ذلك.
وقال الأصمعي: لم يكن النابغة وزهير وأوس يحسنون صفة الخيل، ولكن طفيل الغنوي أحسن في صفة الخيل غاية الإحسان.
- ٣ - ويمتاز شعر النابغة ببلوغه غاية الحسن والجودة ونقاوته من العيوب وجودة مطالع قصائده وأواخرها. وكان البدو من أهل الحجاز يحفظون شعره ويفاخرون به لحسن ديباجته وجمال رونقه وجزالة لفظه وقلة تكلفه وليس له نظير في وصف الإحساسات النفسية كالخوف وما شابه ذلك.
أجاد في المدح كما بلغ الغاية في الاعتذار واعتذارياته إلى النعمان من عيون الشعر العربي وهي فن جديد من فنون الشعر الجاهلي. وتبلغ غاية الجودة والإحسان ومنها قوله:
نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد
وقوله:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع
مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنية قاطع
أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
وقوله:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب
فبت كأن العائدات فرشنني ... هراساً به يعلى فراشي ويقشب