للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومما سبق إليه قوله:

نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود

وقد أخذه أبو نواس فقال:

ضعيفة كر الطرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالأفاقة من سقم

ومما يستحسن من قوله:

حسب الخليلين نأي لأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بالي

وقوله:

المرء يأمل أن يعي ... ش وطول عيش قد يضره

تفنى بشاشته ويب ... قى بعد حلو العيش مره

وتخونه الأيام ح ... تى لا يرى شيئاً يسره

كم شامت بي إن هلك ... ت وقائل: لله دره

ومما سبق إليه ولم يحسن تشبيهه قوله:

من وحش وجرة موشى أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

فشبه الثور في بياضه والتماعه بالسيف المجرد من الغمد، ولم تسمع كلمة "الفرد" إلا في هذا الشعر؛ وللطرماح في المعنى نفسه:

يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد

وهذا أكمل في التشبيه لدلالته على الاختفاء، والظهور المأخوذ من حركة هذا الثور الوحشي.

وفضل ناقد أمام الأصمعي قول النابغة:

نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود

وقوله:

فإنك كالليل الذي هو مدكي ... وإن خلت أن المنتأى عنك أوسع

وقوله:

من وحش وجرة موشى أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

فقال الأصمعي: أما تشبيهه مرض الطرف فحسن، إلا أنه هجنه بذكره العلة وتشبيهه المرأة بالعليل، وأحسن منه قول عدي بن الرقاع العاملي:

وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم

وسنان أقصدة النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم

وأما تشبيه الإدراك بالليل فقد تساوى الليل والنهار فيما يدركانه، وإنما كان سبيله أن يأتي بما ليس له سيم؛ حتى يأتي بمعنى ينفرد به ولو قال قائل: إن قول "النمري" في هذا أحسن لو وجد مساغاً إلى ذلك، حيث يقول:

فلو كنت بالعنقاء أو بسنامها ... لخلتك إلا أن تصد تراني

وأما قوله: "طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد" فالطرماح أحق بهذا المعنى؛ لأنه أخذه فجوره، وزاد عليه، وإن كان النابغة اخترعه، وقول الطرماح هو:

يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد

فقد جمع في هذا البيت استعارة لطيفة بقوله "وتضمره البلاد" وتشبيهه اثنين بقوله "يبدو وتضمر، ويسل ويغمد"؛ وجمع حسن التقسيم، وصحة المقابلة.

وقال جعفر أمام الأصمعي في مجلس الرشيد: لست أفص على شاعر واحد أنه أحسن الناس في بيت تشبيها، ولكن قول امرئ القيس:

كائن غلامي إذ علا حال متنه ... على ظهر باز في السماء محلق

وقول عدي بن الرقاع:

يتعاوران من الغبار ملاءة ... غبراء محكمة هما نسجاها

تطوى إذا وردا مكاناً خاسئاً ... وإذا السنابك أسهلت نشراها

وقول النابغة:

بأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلت لم يبد منهن كوكب

قال الأصمعي: قلت هذا حسن كله بارع، وغيره أحسن منه؛ وإنما يجب أن يقع التعيين على ما اخترعه قائله، ولم يتعرض له أحد، أو تعرض له شاعر فوقه دونه. فأما قول امرئ القيس: "على ظهر باز في السماء محلق". فمن قول أبي داود.

إذا شاء راكبه ضمه ... كما ضم بازي السماء الجناحا

وأما قول عدي: "يتعاوران من الغبار ملاءة" فمن قول الخنساء:

جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر

وأول من نطق به جاهلي من بني عقيل، قال:

ألا يا دار الحي بالبرهان ... عفت حجج بعدي لهن ثماني

فلم يبق منها غير نؤدى مهدم ... وغيره أثاف كالركى دفان

وآثار هاب أورق اللون سافرت ... به الريح والأمطار كل مكان

قفار مريرات يحاز بها القطار ... ويضحى بها الجنان يعتركان

يثيران من نسج الغبار عليهما ... قميص أسمالا ويرتديان

وشارك عدياً أبو النجم، وأورده في أحسن لفظ، قال يصف عيراً وأتاناً، وما أثاراه من الغبار بعدوهما:

ألقى بجنب القاع من حبالها ... سرباله وانشام في سربالها

وأما قول النابغة: "بأنك شمس والملوك كواكب" فقد تقدمه فيه شاعر قديم من شعراء كندة يمدح عمرو بن هند، وهو أحق به من النابغة إذ كان أبا عذرته، فقال:

<<  <   >  >>