إن امرأ سرف الفؤاد يرى ... عسلاً بماء سحابة شتمي
وأنا امرؤ ألوي من القص ... ر البادي وأغشى الدهم بالدهم
وأصيب شاكله الرمية إن ... صدت بصفحتها عن السهم
إلى أن قال:
أبلغ قتادة غير سائله ... من الثواب وعاجل الشكم
إني حمدتك للعشيرة إذ ... جاءت إليك مرقتة العظم
ففتحت بابك للمكارم حين ... تواصت الأبواب بالأزم
فسقى بلادك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمه تهمي
وتعيره حبيبته لسيره في البلاد وتنقله فيها بعيداً عن أهله وبلاده فيقول:
تعير سيري في البلاد ورحلتي ... ألا رب دار لي سوى حر دارك
وليس امرؤ أفنى الشباب مجاورا ... سوى حبه إلا كآخر هالك
ألا رب يوم لو سقمت لعادني ... نساء كرام من حي ومالك
وطال تنقله في البلاد فذهب إلى اليمن، ثم رحل منها إلى النجاشي في الحبشة، وقال في اطراده إلى النجاشي قصيدته: لخولة بالأجزاع من إضم طلل.
ولم فزعته الغربة وحرق قلبه الحنين إلى أهله وبلده، عاد إلى الموطن الذي هجره، فأمده أخوه "معبد" بمال من ماله، ولكنه أتلفه في لذاته ولهوه وعبثه.
٤ - ثم قصد أملاً في إصلاح حاله ملك الحيرة عمرو بن المنذر الثالث الذي يلقب باسم أمه حتى اشتهر بعمرو بن هند، وتولى ملك الحيرة عام ٥٥٤ م كما يقول البعض، أو عام ٥٦٢، أو ٥٦٣ كما يرجح آخرون. وكان الشعراء يرحلون إليه وينشدونه قصائدهم في مدحه فيجزل لهم العطاء. فوفد عليه طرفة مع خاله المتلمس فأحسن وفادتهما وجعلهما في حاشية أخيه قابوس بن المنذر وكان مرشحاً للملك بعده، وكان شاباً يميل إلى اللهو والترف، ويخرج إلى الصيد، فكان يخرج معه طرفة إذا خرج وينادمه على الشراب، وهكذا اطمأن به الحال، واستقرت حياته بعض الاستقرار. ولكن طرفة الشاعر لم يرضه أن يكون تابعاً لأحد، أو أن يشعر بأنه أقل شرفاً ومجداً من إنسان.
٥ - طرفة وابن عمه عبد عمرو: كان عبد عمرو بن بشر بن مرثد بن سعد بن مالك زوجاً للخرنق أخت طرفة، وكان عبد عمرو سيداً كريماً شجاعاً مطاعاً في قومه، ظاهر الثراء والقوة والفتوة، وكان من أجمل العرب، كما كان أثيراً رفيع المنزلة عند عمرو بن هند يداعيه وينادمه، وسيد أهل زمانه كما يقولون.
فجاءت أخت طرفة تشكو إليه شيئاً من أمر زوجها، فغضب الشاعر وهجاه بعد ذلك بقصيدته:
أيا عجبا من عبد عمرو وبغيه ... لقد رام ظلمي عبد عمرو فأنعما
ولا خير فيه غير أن له عني ... وأن له كشحا إذا قام أهضما
يظل نساء الحي يعكفن حوله ... يقلن: عسيب من سرارة ملهما
وبدأت الخصمة والشحناء بين الشاعر وابن عمه، وفيه أيضاً يقول من قصيدة له:
ألا أبلغ عبد الضلال رسالة ... وقد يبلغ الأنباء عنك رسول
دببت بسري بعد ما قد علمته ... وأنت بأسرار الكرام نسول
وكيف تضل القصد والحق واضح ... وللحق بين الصالحين سبيل
ومنها:
وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوارته لدليل
قتل طرفة: ١ - كان ملك الحيرة عمرو بن هند جباراً عنيداً متكبراً، لا يرى في الناس من يدانيه شرفاً ومجداً، وكان له يوم بؤس ويوم نعيم كل سنة، يركب يوم بؤسه فيقتل أول من يلقاه، وفي يوم نعيمه يقف الناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له فأصاب مجداً ومالاً وملك ثلاثاً وخمسين سنة، وكان العرب تهابه هيبة شديدة، وكان أخوه قابوس ولي عهده جباراً متكبراً مستبداً كذلك. ولم يرض طرفة الشاعر عن طغيانهما واستبدادهما وكبريائهما، فنظم قصيدة يهجوهما بها، وهي طويلة.. ومنها:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور
لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير
ومنها:
ولما أن أنخت إلى مليك ... مساكنه الخورنق والسدير
لينجزني مواعد كاذبات ... بطي صحيفة فيها غرور
فأوعدني فأخلف ثم ظني ... وبئس خليقة الملك الفجور
وتمادى طرفة في هجاء عمرو بن هند وأسرته. ومما هجاه به قوله:
ولا خير فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحا إذا قام أهضمها