تظل نساء الحي يعكفن حوله ... يقلن عسيب من سرارة ملهما
٢ - وبلغ ذلك عمرو بن هند فامتلأ حقداً وغضباً على طرفة وأضمر له الشر.
قالوا: إن الذي نقل إليه أهاجي طرفة فيه هو عبد عمرو ابن عمر الشاعر، فثارت حفيظة الملك عليه، ولكنه كره العجلة عليه لمكان قومه فتظاهر بالرضا عن طرفة والتنويه به وبشعره، حتى أمن الشاعر ولم يخفه على نفسه وظن أنه قد رضي، فقدم طرفة والمتلمس على عمرو بن هند يتعرضان لفضله ومعروفه وكان المتلمس أيضاً قد هجا عمرو بن هند الملك في قصيدة من شعره، وكان في نفس الملك موجدة عليه يكتمها عنه كذلك.
أظهر عمرو بن هند الاحتفاء بالشاعرين، وتلطف معهما تلطفاً جميلاً وكتب لكل منهما كتابا إلى عامله بالبحرين وأوهمهما أنه أمر لهما بعطاء كثير سيدفعه إليهما هذا العامل عندما يتوجهان إليه بهجر، وقال لهما: انطلقا إليه فخذا جوائزكما منه، وكان قد أعطاهما هدية من عنده وحملهما.
ولعل إيثاره لهذا الأسلوب في الانتقام من الشاعرين لخوفه من قبيلتهما - بكر - حتى لا يرمى الملك بقتلهما، أو بمثابة الرد على قول طرفة في هجائه:
لينجزني مواعد كاذبات ... بطي صحيفة فيها غرور
كان مكتوباً في صحيفة المتلمس: "باسمك اللهم، من عمرو بن هند إلى المكعبر: إذا جاءك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً"، وكذلك كانت صحيفة طرفة.
وخرج الشاعران من بلاط الملك، فلما وصلا النجف قال المتلمس: يا طرفة إنك غلام حديث السن، والملك من عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه فلست آمنا أن يكون قد أمر بشر، فهلم فلننظر في كتبنا هذه، فإن يكن قد أمر لنا بخير مضينا فيه، وإن تكن الأخرى لم نهلك أنفسنا، فأبى طرفة أن يفك خاتم الملك، وعدل المتلمس إلى غلام من غلمان الحيرة عبادي، فأعطاه الصحيفة ليقرأها، والغلام لا يعرف المتلمس ولا من كتب الصحيفة، فقرأها فقال: ثكلت المتلمس أمه، فانتزع المتلمس الصحيفة من يده، واتبع طرفة فلم يلحقه.
٣ - ألقى المتلمس الصحيفة في نهر الحيرة، وسار هارباً إلى الشام وهو يقول:
وألقيتها بالشنى من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضلل
رضيت لها بالماء لما رأيتها ... يجول بها التيار في كل جدول
وأخيراً استقر به المقام عند بني غسان فأكرموا وفادته، وأخذ الشاعر يهجو ملوك الحيرة وبني المنذر، فشق ذلك على عمرو بن هند، وكان بنو غسان قد قتلوا أباه يوم "أباغ" فحلف ألا يدخل المتلمس العراق ولا يطعم بها حتى يموت، وكتب إلى عماله بنواحي الريف يأمرهم أن يأخذوا المتلمس إن قدروا عليه وهو يمتار طعاماً أو يدخل الريف، وفي ذلك يقول المتلمس يحرض قومه بعد قتل طرفة:
يا آل بكر ألا لله دركمو ... طال الثواء وثوب العجز ملبوس
ومنها:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
وقال:
أيها السائلي فإني غريب ... نازح عن محلتي وصميمي
وقال:
إن العراق وأهله كانوا الهوى ... فإذا نآنا ودهم فليبعدوا
ومات ببصرى بأرض الشام نحو عام ٥٨٠ م.
٤ - وأما طرفة فقد سار حتى قدم على عامل البحرين ربيعة بن الحرث العبدي على الأرجح بهجر، فدفع إليه كتاب عمرو بن هند فقرأه فقال: هل تعلم يا طرفة ما أمرت به؟ قال: نعم، أمرت أن تجيرني وتحسن إلي. فقال: يا طرفة بيني وبينك خؤولة أنا لها راع حافظ فاهرب في ليلتك هذه فإني قد أمرت بقتلك، فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس. فقال طرفة: اشتدت عليك جائزتي فأردت أن أهرب؟ فسكت ربيعة، وأصبح الصباح فأمر بحبسه ولم يقتله، وكتب إلى عمرو بن هند ابعث إلى عملك من تريد فإني غير قاتله، فبعث عمرو بن هند رجلاً من تغلب فاستعمله على البحرين وأمره بقتل طرفة وربيعة بن الحارث العبدي، فاجتمعت بكر تريد الفتك بالعامل الجديد، ولكنها لم تستطع، وجيء بطرفة إليه فقال له: إني قاتلك لا محالة فاختر لنفسك ميتة تهواها. فقال: إن كان ولابد فاسقني الخمر وافصدني. ففعل به ذلك، فما زال ينزف دمه حتى مات.
قال صاحب الجمهرة ٢١٥ هـ وقبر طرفة اليوم معروف بهجر بأرض لبنى قيس بن ثعلبة، ويروى أنه قال قبل صلبه:
فمن مبلغ أحياء بكر بن وائل ... بأن ابن عبد راكب غير راجل