[تفسير قوله تعالى: (لله ما في السماوات وما في الأرض)]
قال الله عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:٢٨٤] ما: اسم معنى، اسم موصول يعم كل ما في السماوات والأرض فهو لله، لا يشركه فيه أحد، كما قال الله تبارك وتعالى: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه} [سبأ:٢٢-٢٣] .
وفي الآية حصر، أي: حصر ملك السماوات والأرض لله وحده؛ والحصر: تخصيص شيء بشيء، فما هو طريق الحصر في هذه الآية؟ طريق الحصر أنه قدم ما حقه التأخير، فقوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لو أردنا أن نعربها لقلنا: (ما) مبتدأ، و (لله) خبره، فقدم الخبر، وتقديم الخبر يفيد الحصر والاقتصار، فملك السماوات والأرض لله وحده، أما ملكنا نحن لما نملكه، كملك الإنسان لقلمه أو لساعته أو لثوبه فهذا ملكٌ قاصر، ولهذا لا يحل لنا أن نتصرف في هذا الملك إلا حسب ما أذن الله لنا فيه، أرأيتم لو أن إنساناً أراد أن ينفق ماله أيملك هذا؟ لا.
لأن الله تعالى يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:٥] يعني: فيفسدوها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} انتبه لهذه الجملة من الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} هذه الجملة شديدة على الإنسان؛ إن الإنسان إذا أضمر في نفسه شيئاً حاسبه الله سواء أبداه أو أخفاه، هذا صعب جداً، ولهذا نزلت الآية بعدها، وهي قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] فالحمد لله رب العالمين، ما لا يمكنك مما تحدثك به نفسك فإنه لا يضرك شيئاً ولو كان أعظم عظيم، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] ، ولقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) اللهم لك الحمد، نعمة امتن الله بها علينا، حديث النفس لا منتهى له، النفس تحدث الإنسان بأشياء ربما تكون فضيعة، ربما تكون كفراً وشركاً وإلحاداً، ولكن هل يؤاخذ على هذا؟ لا.
لا يؤاخذ، إنما يجب عليه أن يفعل ما يطرد به هذا الحديث الذي حدثت به النفس، وهو -أي: ما يطرد هذا الحديث- شيئان، وصفهما لنا طبيب الأمة محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: (وليستعذ بالله ولينته) كلمتان: إحداهما تستطيعها وباختيارك وهي الانتهاء، والثانية: بإذن الله عز وجل تستعيذ بالله.
ومعنى الاستعاذة بالله: الالتجاء والاعتصام، أعوذ بالله، أي: ألتجئ إلى الله وأعتصم به، مِمن؟ من الشيطان؛ لأن الذي يلقي هذه الوساوس في القلوب هو الشيطان.
الصحابة رضي الله عنهم شكوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذا، وقالوا: (يا رسول الله! إننا نجد في نفوسنا ما نحب أن نخر من السماء ولا نتكلم به) ، وفي حديثٍ آخر: (ما نحب أن يكون أحدنا حممة -أي: فحمة محترقة- ولا يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: أوجدتم ذلك؟ قالوا: نعم.
قال: هذا صريح الإيمان) وما معنى (صريح الإيمان) ؟ الصريح من كل شيء خالصه، وإنما كان هذا صريح الإيمان؛ لأن الشيطان يحاول أن يكدر هذا الصريح، ولو كان الصريح كدراً ما حاول، ولهذا قيل لـ ابن مسعود أو ابن عباس: [إن اليهود يقولون: إننا لا نفكر في صلاتنا ولا نوسوس في صلاتنا -يعني: ونحن المسلمون نفكر في الصلاة، نفكر كثيراً بأشياء لا فائدة منها- فقال ابن عباس: وما يفعل الشيطان بقلبٍ خرب] يعني: ماذا يفعل فيه، قلب خربان لا يقربه الشيطان لأنه خارب، إنما يأتي الشيطان للقلوب الصحيحة ليمرضها، والصالحة ليفسدها، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الناس يتساءلون: من خلق كذا؟) يعني: من خلق السماوات؟
الجواب
الله، من خلق الأرض؟ الله، من خلق الشمس؟ الله، من خلق القمر؟ الله، من خلق النجوم؟ الله، ثم يأتي الشيطان يقفز بهم ويقول: من خلق الله؟ أعوذ بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليستعذ بالله، ولينته) وهذه من نعمة الله.
فعليك أخي المسلم! ألا تستولي عليك هذه الوساوس حتى تنخدع وتخضع لها بل اطردها، اطردها بشيئين هما: الاستعاذة بالله، والإعراض عنها، انته عنها، صد عنها، لا تهمك، اشتغل بما بين يديك وانسها حتى تزول بالكلية، وهل هذا يشمل الوساوس في العلاقات بين الزوجين؟ بمعنى: لو أن الشيطان حدثك في نفسك بأنك طلقت زوجتك، أتطلق؟ لا.
إنسان يحدث نفسه، يقول: هذه زوجة ليست صالحة، هذه أتعبتني، هذه فعلت ما فعلت، ثم يقول في نفسه: هي طالق دون أن ينطق بها بلسانه، تطلق أو لا؟ لا تطلق، ولهذا ليطمئن أولئك الذين يلقي الشيطان في قلوبهم أنهم طلقوا زوجاتهم دون أن يتكلموا بذلك ليطمئنوا أن زوجاتهم باقيات وأنهن لم يطلقن، وهذه من نعمة الله عز وجل.
وإن هم الإنسان أن يفعل معصية، ولكن تذكر عظمة الله، تذكر عقاب الله، تذكر ما تحدثه المعاصي في القلوب؛ لأن المعاصي سهام القلوب تخرق القلوب حتى تتلف، لما تذكر هذا خاف الله وترك الهم بالمعصية، ماذا يكون عليه؟ يأثم أو لا يأثم؟ لا يأثم بل يؤجر، يكتبها الله تعالى حسنة كاملة، ولله الحمد، قال في الحديث: (لأنه تركها من جرائي) معنى من جرائي: أي من أجلي.
فهذه من نعمة الله عز وجل أن حديث النفس لا أثر له، ولكن اخش واحذر أن يتسلط عليك الشيطان حتى يكون هذا الحديث انفعالاً وإرادة فتهلك.
يقول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} يكون الله تعالى قد أعلمنا في الآية الثانية: أنه إذا كان هذا الأمر ليس بوسعنا فإننا غير مكلفين به، ونبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبرنا: بأن الله تجاوز عنا ما حدثت به أنفسنا ما لم نعمل أو نتكلم: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} يعني: إذا حاسبنا الله عز وجل على ما في قلوبنا فإن المشيئة التامة له؛ إن شاء غفر وإن شاء عذب.
وفي الآية إثبات مشيئة الله عز وجل وأنه يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا يسأل عما يفعل؛ لأنه عز وجل لا يفعل شيئاً إلا لحكمة سواء علمناها أم لم نعلمها.
وفي آية أخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] هذه الآية أوجبت للعصاة الذين يعصون الله بغير الشرك أن يتهاونوا، وإذا نهيته عن معصية ارتكبها يقول: الله غفور رحيم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} هكذا الشيطان يوسوس لهم، يجعلهم يعملون بالمتشابه من القرآن ويتركون المحكم.
ولكن هل أنت على ثقة من أن تكون ممن شاء الله أن يغفر لهم؟ أجيبوا يا جماعة؟ لا؛ لأنه ما قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) ولم يقيده، بل قيده فقال: (لمن يشاء) فهل أنت على ثقة أنك ممن شاء الله أن يغفر له؟ لست على ثقة.
ثم إن المعاصي يجر بعضها بعضاً، ولذلك حرم النظر للمرأة التي ليست بينك وبينها محرمية، لماذا؟ نظرة فقط حرام؟ لأنه يجر إلى الزنا، فالمعاصي في الواقع مشترك بعضها ببعض، إذا تهاونت بمعصية هون عليك الشيطان ما هو أعظم منها، ثم ما هو أعظم، حتى يوصلك إلى الشرك.
واستمع إلى الذين غمرت قلوبهم المعصية ماذا قالوا عن آيات الله؟ {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين:١] يعني: هذه (سواليف) وليست بشيء، قال الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:١٤] انظر المعاصي تجعل الإنسان يتصور أن آيات الله أساطير الأولين؛ لأنه لا يصل معناها إلى قلبه والعياذ بالله، بل هو قلب مغلق، فلا يصل الإيمان بهذه الآيات إلى قلبه، ولا تفيد قلبه شيئاً؛ لأنه قد ران على قلبه ما كان يكسب.
فالمعاصي يا أخي! احذرها ولا تتهاون بها: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٨٤] (والله على كل شيء قدير) كل شيء، وهذه الكلمة فيها عمومٌ، كل شيء موجود فهو قادر على إعدامه بلحظة، وكل شيء مفقود فهو قادر على إيجاده بلحظة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] والله على كل شيء قدير فما هي القدرة؟ القدرة هي: فعل الفاعل بلا عجز، يعني: أن يفعل الفاعل والشيء بلا عجز.
وما هي القوة؟ أن يفعل الشيء بلا ضعف، انتبه للفرق! كثير من الناس لا يفرق بين القدرة والقوة، والواقع أن بينهما فرقاً؛ القوة ضدها الضعف، والقدرة ضدها العجز، واستمع للفرق بين هذا وهذا من القرآن: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:٥٤] هذه تدل على أن ضد القوة الضعف.
وضد القدرة العجز، استمع: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:٤٤] ولم يقل: قوياً؛ لأن ضد العجز القدرة.
وهنا أضرب لكم مثلاً حسياً يبين لكم الفرق بين القدرة