[تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)]
تأتي النواهي: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦] ماذا قال ربنا جل وعلا؟ (قال الله: قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إذا نسيتم أو أخطأتم، هذه الجملة الثانية في النواهي، فإذا فعل الإنسان معصية ناسياً أو فعل معصية مخطئاً لا يعلم أنها حرام فلا شيء عليه وكأنه لم يفعلها.
نضرب أمثلة لهذا: رجل يصلي والذي يصلي لا يتكلم أبداً إلا مع الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فإنه يناجي ربه) (تقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:٢] فيقول الله: حمدني عبدي) المهم لا يتكلم كلام آدميين، لكنه قرع عليه الباب واحد يستأذن، فسمع الباب وقال: تفضل -يقول للذي قرع الباب- لكنه ناسٍ أنه في الصلاة، ماذا يكون عليه؟ لا شيء، تبطل صلاته أو لا تبطل؟ لا تبطل، لماذا؟ لأنه ناسٍ غافل.
رجل آخر يحب الخير ويحب أن يقوم بالواجبات فعطس إلى جنبه أحد المصلين وهو معه يصلي، فقال الذي عطس: الحمد لله، وهذا جائز ومشروع، إذا عطست وأنت تصلي قل: الحمد لله، الثاني زميله إلى جنبه قال: يرحمك الله، متأولاً؛ لأن يرحمك الله دعاء، وهو يتصور أن الدعاء في الصلاة لا يبطل الصلاة، ولو كان بكاف الخطاب، قال: يرحمك الله، فلما انتهت الصلاة، قال له بعض الحاضرين: أعد الصلاة لأنك تكلمت بكلام آدميين؛ تخاطب صاحبك تقول: يرحمك الله، فماذا نقول له بناءً على القاعدة التي ذكرها الله في الآية؟ نقول: لا شيء عليك، والذي قال: إن صلاتك باطلة ليس على صواب؛ لأن السنة تحكم بين الناس، والسنة وقعت بمثل هذه الصورة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من تكلم بإعادة الصلاة: (معاوية بن الحكم رضي الله عنه دخل يصلي فعطس رجلٌ من القوم فقال: الحمد لله، فقال له معاوية: يرحمك الله، فرماه الناس بأبصارهم، رموه بأبصارهم -يعني: نظروا إليه نظرة إنكار؛ لأن الإنسان إذا نظر إليك نظر رضاً ما يقال رماك ببصره، لكن نظر إنكار- يقال: رموه بأبصارهم مستنكرين قوله، فقال: واثكل أمياه -يعني: تكلم مرة ثانية- فجعلوا يضربون أفخاذهم يسكتونه فسكت، فلما انتهت الصلاة، دعاه من بالمؤمنين رءوف رحيم صلى الله عليه وسلم، بعدما انتهت الصلاة دعاه قال معاوية: فبأبي هو وأمي! والله ما كهرني ولا نهرني -لا أنكر عليه بالوجه ولا باللسان، ما كهره ولا نهره- وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) أو كما قال، ولم يأمره بالإعادة.
وهذا بناء على أن من فعل محذوراً جاهلاً فليس عليه شيء.
وفي حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) هذا إنسان نسي أنه صائم فمر على البراد، فشرب لأنه عطشان، ونسي أن كان صائماً، ماذا نقول له؟ لا شيء عليه.
رجل آخر معه عنقود عنب، فجعل يأكل من العنقود ناسياً أنه صائم، فلما بقي حبة واحدة ذكر أنه صائم، فقال: سآكل هذه الحبة، إن كان العنقود الأول لا يفطرني فالحبة هذه لا تفطرني، وإن كان يفطرني فقد انتهى الموضوع، ماذا تقولون في هذا؟ أفطر بالحبة الأخيرة؛ لأنه كان الواجب عليه أن يتوقف ويسأل، ربما يقول قائل: هذا أكل الحبة جاهلاً، لكن نقول: هو مفرط، الواجب عليه أن يسأل.
رجلٌ احتجم وهو صائم يظن أن الحجامة لا تفطر، أيفسد صومه؟ لا.
لأنه جاهل.
رجل أفطر يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب، فهل يفسد صومه؟ لا.
رجل أكل بعد طلوع الفجر يظن أن قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:١٨٧] أن المراد بالخيوط الحبال، وجعل يأكل ويشرب حتى تبين الحبل الأسود من الحبل الأبيض، أيفسد صومه؟ لا يفسد؛ لأنه كان جاهلاً.
وقد وقعت هاتان القصتان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام: أما الأولى: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أفطرنا في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في يوم غيمٍ ثم طلعت الشمس) ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به لوجوب الإبلاغ عليهم، فلما لم يأمر به علم بأنه ليس بواجب، وهو داخل في القاعدة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .
أما الثاني: فـ عدي بن حاتم رضي الله عنه كان يريد أن يصوم، وفي الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فجعل تحت وسادته عقالين أحدهما أسود والثاني أبيض، وجعل يأكل وينظر إلى العقالين فلما تبين الأبيض من الأسود توقف، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمره بالإعادة، لماذا؟ لأنه كان جاهلاً متأولاً؛ يظن أن هذا هو معنى الآية، فلهذا لم يلزمه النبي عليه الصلاة والسلام بالقضاء.
رجل محرم بالحج وفي ليلة العيد وهي ليلة مزدلفة، بعد أن رجع من عرفة كانت معه زوجته فجامعها، وهو يظن أن الحج قد انتهى، مستدلاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) فقال: قد انتهينا من عرفة والحمد لله وظن أنه يجوز أن يجامع زوجته فجامعها.
وكان الجماع قبل التحلل الأول، وهو يفسد النسك، يعني: أن الحج فسد؛ لأن الجماع قبل التحلل الأول مع العلم والذكر يترتب عليه خمسة أمور: الإثم، وفساد النسك، والمضي فيه، والقضاء من العام القادم، وفدية وهي بدنة، لكن هذا الرجل جاهل فجاء يسألنا، ماذا نقول له؟ نقول: الحج صحيح ولا شيء عليك لأنك جاهل، والرب عز وجل لما دعا المؤمنون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله: قد فعلت.
المهم -يا إخواني- خذوا هذه القاعدة معكم، في الأوامر: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} .
وفي النواهي: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فقال الله تعالى: قد فعلت.
وعرفتم أمثلة واقعية من السنة في أن الإنسان المخطئ لا يعاقب، والناسي لا يعاقب، ولكن لاحظوا أنه متى زال العذر وجب التوقف عن المحظور، يعني: متى علم أو ذكر الإنسان بأنه الآن في محظور وجب عليه أن يتوقف.