تفسير قوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً)
قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:٧٣] اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا.
الآية} [الزمر:٧٣] السوق هنا ليس كالسوق الأول في الكافرين سوق الكافرين، سوق إهانة وزجر: {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} [الطور:١٣] ، وسوق هؤلاء المتقين سوق إكرام، ويدل بذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم:٨٥-٨٦] المتقون قال: نحشر، نجمعهم يفدون إلى الله، والوفد في العادة يكرم، فالفرق بين السوقين أن الأول أعني سوق الكافرين يكون للإهانة والذل، وأما سوق المتقين فإنه للإكرام: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} وهنا نسأل: ما هي التقوى التي ترد في القرآن كثيراً؟ التقوى: أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله، ولهذا يقول علماء التصريف: التقوى أصلها وقى من الوقاية، فما هو الذي يقي من عذاب الله؟ الذي يقي من عذاب الله هو: (امتثال أمره، واجتناب نهيه، وتصديق خبره) ثلاثة أشياء: امتثال أمره، والثاني: اجتناب نهيه، والثالث: تصديق خبره، هذا أجمع ما قيل في التقوى: أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره.
وقيل في تعريفها: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نورٍ من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
وقيل في تعريفها:
خلِ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
ولكن أجمع ما قيل فيها هي ما ذكرناه أولاً: امتثال أمر الله، واجتناب نهي الله، وتصديق أخبار الله.
هؤلاء هم الذين اتقوا ربهم يساقون إلى الجنة زمراً، أي: أفواجاً، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، أتجدون شيئاً أحسن من ذلك؟ أبداً.
ولهذا يمثل للمرأة الحسناء بأنها بدر، فلا أحسن من هذا المنظر.
يقول عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي: جاءوا الجنة بعد العبور على الصراط: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} يا لها من تحية عظيمة! يقول: {إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وفي أهل النار، قال: {إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:٧١] والقرآن فصاحة وبيان، فلماذا قال في أهل النار: (إذا جاءوها فتحت) ، وفي أهل الجنة: (إذا جاءوها وفتحت) ؟ قال بعض النحويين: إن هذه الواو: واو الثمانية؛ لأن أبواب الجنة ثمانية كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) فقالوا: إن هذه واو الثمانية، وواو الثمانية تأتي في القرآن كثيراً، اقرأ قول الله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:١١٢] جاءت الواو عند الوصف الثامن، وقالوا أيضاً اقرأ قول الله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢] ، واقرأ أيضاً: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:٥] جاءت الواو عند الوصف الثامن، ولكن هذا غلط، لا توجد واو تسمى واو الثمانية أبداً؛ لأن قوله: (ثيباتٍ وأبكاراً) إنما عطف أبكاراً بالواو على ثيبات؛ لأنه لا يمكن أن تكون المرأة ثيباً بكراً، فلابد أن تكون (ثيبات وأبكاراً) مغايرات للثيبات، بخلاف الصفات الست الأولى فإنه يمكن أن تجتمع في امرأة واحدة، على كل حال نقول: إن الواو هنا في أهل الجنة لها معنى أبعد غوراً مما ذكر هؤلاء أنها واو الثمانية، فما هو المعنى؟ المعنى: أن أهل الجنة إذا وصلوا الجنة لا يجدون أبوابها مفتوحة، يحبسون قليلاً حتى يشتد شوقهم إليها؛ لأن الإنسان كلما اشتد شوقه إلى الشيء صار إتيانه إياه على شوق أعظم، أليس كذلك؟ انظر إلى الجائع إذا طال عليه الجوع ثم قدم له الأكل يكون الأكل أشهى له بلا شك، كلما طال الأمد بين الأكلتين صار أشد شوقاً إلى الأكلة الثانية، فهم يحبسون عند أبواب الجنة، لا يجدونها مفتوحة، بخلاف أهل النار يبادرون بلفحها والعياذ بالله وسمومها، لكن أهل الجنة يحبسون إلى متى؟ إلى أن يظهر فضل النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ليشفع عند الله جل وعلا أن يفتح أبواب الجنة لأهل الجنة، فتقبل الشفاعة وتفتح الأبواب، ويكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول من يدخل الجنة، إذاً: الحكمة من الواو هنا: أنهم ليسوا إذا جاءوها فتحت، بل إذا جاءوها حبسوا وأوقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهذبون وينزع ما في قلوبهم من غل، وتطهر القلوب حتى يدخلوا هذه الدار على أكمل حال، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧] أسأل الله تعالى برحمته وفضله أن يجعلنا وإياكم منهم آمين آمين آمين.
هؤلاء لا يدخلون الجنة إلا على أكمل وجه، جميع الغل الذي كان في قلوبهم في الدنيا فإنه ينزع، مع أنه قد اقتص لبعضهم من بعض في عرصات القيامة، لكن هذا لإزالة ما في القلوب، أو ما علق بالقلوب من الغل والحقد.
ثم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفتح أبواب الجنة.
وما دمنا ذكرنا الشفاعة فإن للرسول عليه الصلاة والسلام ثلاث شفاعاتٍ خاصات به لا أحد يشفع فيها.
شفاعته في أهل الموقف أن يقضى بينهم؛ لأن أهل الموقف تدنو منهم الشمس حتى تكون قدر ميل من رءوسهم، وحتى إنهم يعرقون من شدة الحر حتى يصل العرق إلى الكعبين وإلى الركبتين وإلى الحقوين وإلى الفم وبعضهم يلجمه العرق، ويلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون؛ لأنهم يقفون خمسين ألف سنة، لا طعام ولا شراب ولا شيء، يقفون هذا الموقف العظيم فيلحقهم من الكرب ما لا يطيقون، فيقول بعضهم لبعض: انظروا من يشفع لنا إلى الله يريحنا من هذا الموقف، فيلهمون أن يذهبوا إلى آدم، آدم أبو البشر خلقه الله بيده، وعلمه أسماء كل شيء، وأسجد له الملائكة، فيصفونه بهذه الأوصاف، ويقولون له: ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول: لست بذاك، ثم يعتذر بأكله من الشجرة؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:٣٥] فوسوس لهما الشيطان فأكلا منها، قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:١٢١-١٢٢] فصارت حال آدم بعد التوبة عليه أكمل من حاله قبل أن يأكل من الشجرة؛ لأنه تاب، فآدم يعتذر بأكل الشجرة، وتعرفون أن الشافع إنما يشفع عند المشفوع عنده إذا لم يكن بينهما ما يوجب الجفوة، ثم يأتون إلى نوح، ويقولون له: أنت أول رسولٍ أرسله الله إلى أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك، فيذكر أيضاً عذراً، والعذر قال: إني سألت الله تعالى ما ليس لي ويعتذر، فيأتون إلى إبراهيم خليل الرحمن عز وجل، فيعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات، وهن لسن كذبات في الواقع، لكن إنما لشدة حيائه من الله عز وجل استحيا أن يكون شفيعاً وقد كذب هذه الكذبات مع أنها تورية وليست بكذب، ثم يأتون إلى موسى، فيعتذر بأنه قتل نفساً لم يؤمر بقتلها، ما هذه النفس؟ قتل قبطياً استغاثه عليه إسرائيلي فقتله موسى، وموسى عليه الصلاة والسلام معروفٌ بالشدة، وكزه بيده فقضى عليه، إلى من يأتون؟ إلى عيسى؛ وعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لا يذكر شيئاً لكن يعترف بالفضل لأهله، يقول: اذهبوا إلى محمد، عبدٌ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فانظروا كيف ألهم الله الخلق أن يأتوا هؤلاء الأنبياء الكرام! فمنهم من يعتذر، ومنهم من يعترف بالحق لأهله، الذي اعتذر أربعة: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، والذي اعترف عيسى، قال: ائتوا محمداً، عبدٌ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيستأذن من الله أن يشفع للناس، فيأذن له.
وانظروا! محمدٌ لا يشفع إلا بإذن الله، يستأذن من الله عز وجل، رب العزة والعظمة أعظم من أن يشفع أي إنسانٍ أو مخلوقٍ عنده إلا بإذنه، فيستأذن فيرحم الله الخلق ويأذن له فيشفع فيهم، وبهذا يظهر إكرام الشافع ورحمة المشفوع عنده، أليس كذلك؟ مع أن الله قادر على أن يرفع هذا عنهم بدون شفاعة، لكن من أجل أن يظهر فضل الشافع، ورحمة الله تعالى بالعباد، وعظمته وسلطانه أنه لا يشفع أحدٌ عنده إلا بإذنه.
فيقضي الله بين العباد، هذه الشفاعة العظمى خاصة بالرسول اعتذر عنها أبو البشر، وأولو العزم من الرسل حتى وصلت إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
الشفاعة الثانية: الشفاعة لأهل الجنة بدخول الجنة.
الشفاعة الثالثة: شفاعته لعمه أبي طالب ووجه خصوصيته بذلك: أن أبا طالب مات على الكفر، ولا غرابة أن يموت عم الرسول عليه الصلاة والسلام على الكفر كما أن آزر أبا إبراهيم مات على الكفر، لا غرابة؛ بل فيه دليل على