[استعمال الحكمة والموعظة الحسنة مع المدعو]
يقول الله عز وجل: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥] .
هذه ثلاثة أوصاف للدعوة، هل هي أوصاف مقترنة؟ أو أوصاف مترتبة؟ يعني: بعضها في حال وبعضها في حال، أو هي مقترنة يعني: تدعو بحكمة وموعظة ومجادلة؟
الجواب
الحال يقتضي أن تكون مرتبة، أولاً: بالحكمة، ببيان الحق ودليله من الكتاب والسنة، واعلم أنني أحب لكل داعية أن يقرن دعوته بالدليل، أولاً: لبراءة الذمة، وثانياً: ليطمئن المدعو؛ لأن المدعو إذا قيل له: هذا حرام، أو هذا واجب لقوله تعالى، أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئن بلا شك، ويكون له حجة عند الله عز وجل، فإذا أمكنك أن تذكر الدليل للمدعو كان هذا خيراً، لما فيه من إبراء الذمة، وثانياً: اطمئنان المدعو، هذا الرجل رجل ليس عنده رد للدعوة وليس عنده مجادلة يكفي أن تدعوه بالحكمة، واعلم أن الحكمة كما قال الله عز وجل: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:٢٦٩] .
لو رأيت رجلاً يستغيث بصاحب قبر: يا سيدي! يا مولاي! يا ولي الله! أغثني، مثلاً: يستغيث بصاحب القبر، نحن نعلم أن الاستغاثة بصاحب القبر شركٌ أكبر مخرج عن الملة، فهذا الذي يستغيث بصاحب القبر نقول: لو مت على هذا لكنت من أصحاب النار، أصحاب النار المخلدين فيها، لقول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:٧٢] .
رأيت رجلاً يستغيث بقبر، هل تأتي مباشرة وتقول: أنت كافر! أنت مشرك! قد حرم الله عليك الجنة؟ لا.
ولا يجوز أن تقول هذا، وإن كان واقع الحال هو ما ذكرت، لكن لا يجوز، هذا تنفير، اذكر له الحق، والحق مطابقٌ تماماً للفطرة، قل: يا أخي! أو لا تقل: يا أخي! هذه مشكلة، هل تقول لهذا الذي يستغيث بالقبر: يا أخي! تعال هذا شرك بالله، أو لا تقول: يا أخي؟! هو على كل حال هذا الرجل الذي يستغيث بالقبر لا تظن أنه يستغيث به وهو يعتقد أنه شركٌ مخرج عن الإسلام أبداً، هذا إذا كان ينتسب إلى الإسلام، فإذاً: يصح أن تقول: يا أخي! باعتبار أنه يرى نفسه مسلماً، وإن شئت فقل: يا أخي! باعتبارٍ آخر وهو أنه باعتبار ما يكون، وإن شئت فقل: يا رجل! وتسلم من هذا الإشكال: استغث بالله عز وجل، كما قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وأصحابه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:٩] الاستجابة مرتبة على الاستغاثة، والفاء تدل على الترتيب والتعقيب، استغث بالله حتى يستجيب الله لك وربك على كل شيء قدير، وهذا المخلوق الذي أنت الآن تستغيث به هو ميت هامد ربما تكون الأرض أكلته ولا يبقى من جسده إلا عجب الذنب ولا ينفعك، ثم بعد ذلك ترغبه في التوحيد، أترون أن هذا يقبل، أو لو قيل له: أنت مشرك، وهذا شرك، ومن أشرك بالله حرم الله عليه الجنة؟ الذي وبخته وأنكرت عليه بشدة هذا لا يقبل في الغالب، لكن من أتيته بلطف وموعظة حسنة قبل.
والموعظة الحسنة هل هي بالصيغة أو بالكيفية؟ بمعنى هل أنت تسوق له الأدلة من الكتاب والسنة على وجهٍ يقنع، أو حتى بالكيفية؟ الجواب: بالأمرين جميعاً، بكيفية السياق، وبأقرب ما يمكن أن يقتنع به، حتى لو ضربت له الأمثال افعل، ألم يكن الله عز وجل يضرب الأمثال للذين يدعون من دون الله؟ {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:٤١] {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:١٤] الذي يريد أن يشرب من النهر، ويخرج يديه باسطاً إياهما أيبقى شيء من الماء؟ لا.
إذاً: هؤلاء الذين يدعون من دون الله لا يستجيبون لهم إطلاقاً؛ لأن هذا الذي يريد أن يشرب وقد بسط كفيه لا يمكن أن ينال ماءً.
المرتبة الثالثة: إذا دعوناه بالحكمة ولم يفعل، بالموعظة الحسنة ولم يفعل، نأتي إلى المجادلة؛ لأن الذي لا يقبل بالموعظة سوف يجادل، فنجادله لكن بالتي هي أحسن، أقرب طريق يوصل إلى الحق اتبعه.
وأنا أذكر لكم الآن مجادلة وقعت بين إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وبين رجلٍ مشرك متمرد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨] فإذا كان ربك يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت، إذاً: أنا رب كربك، فقال له إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:٢٥٨] جادله بماذا؟ بالتي هي أحسن، جادله بأمرٍ لا يتمكن من الرد عليه، ولهذا قال: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:٢٥٨] في البداية رد على إبراهيم لما قال إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨] ، جادل وقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨] هل هذه دعوى منه أنه يحيي ويميت؟ أو أنه منزل على حالٍ من الأحوال؟ الظاهر أنه منزلٌ على حالٍ من الأحوال؛ الأحوال: هو أنه يؤتى إليه بالرجل الذي استحق القتل فلا يقتله، ويدعي أن هذا إحياء، وليس إحياءً في الواقع الرجل حي من قبل، أو يؤتى إليه بالرجل لا يستحق القتل فيقتله، فيقول: هذا إماتة.
وهذا غير صحيح، هذا ليس إماتة لكنه فعل سببٍ يقتضي الموت، ولو شاء الله ألا يموت هذا الذي قتل لم يمت، ألم تعلموا أن الدجال يأتيه الرجل الشاب ويقول: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله! فيقطعه قطعتين ويمشي بينهما، ثم يدعوه فيقوم يتهلل، من الذي أحياه؟ الله عز وجل، فالمهم هذا الرجل قال بعض العلماء أراد بقوله: أنا أحيي وأميت أنه يؤتى إليه بالرجل لا يستحق القتل فيقتله، وادعى أن هذا إماتة، ويؤتى إليه بالرجل يستحق القتل فيرفع عنه القتل وادعى أن هذا إحياء، وقيل: إن هذه دعوى منه وليس يريد أن ينزلها على حالٍ من الأحوال، يعني: ادعى أنه يحيي ويميت، وعلى كلٍ فإبراهيم عدل عن هذا الذي يمكن أن يكون جدلاً إلى أمرٍ لا يمكنه أن يتخلص منه وهو {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:٢٥٨] هل يمكن أن يدعي أنه يأتي بها من المغرب؟ لا يمكن؛ لأن هذا أمرٌ معلوم بالبداهة: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٥٨] ، ولهذا ينبغي للمجادل أن يسلك أقرب طريق لإفحام الخصم، لا يتابعه؛ لأنه ربما إذا تابعته صعد بك جبلاً لا تستطيع رقيه، لكن ائت بأمر لا يتخلص منه، واعدل عن جوابه الذي أورد الشبهة فيه حتى تقضي عليه نهائياً.
المهم: حالنا بالنسبة لدعوة الناس تنقسم إلى أقسام: الأول: الدعوة بالحكمة.
والثاني: إذا لم يقتنع نعظه بترغيبٍ وترهيب.
والثالث: إذا جادل نجادله بالتي هي أحسن.
وهناك أمر رابع لم يذكر في هذه الآية، وهو إذا كان ظالماً: فإننا لا نجادله، لقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:٤٦] ؟ هؤلاء لا نجادلهم بالتي هي أحسن، بل نجالدهم بالسيف؛ لأنهم معاندون، فصار الأقسام إذاً أربعة؛ ثلاثة ذكرت في آية واحدة، والرابع في آية أخرى.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من دعاة الحق وأنصاره، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
وإني أدعو إخواني الداعين إلى الله أن يستعلموا الأسهل والأيسر، ولهذا كان الرسول يبعث الناس للدعوة إلى الحق ويقول: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) فكل شيء يرغب الناس في الحق اتبعه فأنت على خير.