{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:٢٨٥] ونصبت غفرانك مع أنها في أول الجملة، وكان فيما يبدو أن تكون بالرفع، لكنها منصوبة بفعل محذوف، أي: نسألك غفرانك، يقولون:(سمعنا وأطعنا) ثم يقولون: (نسألك غفرانك) لأن الإنسان وإن أطاع فقد يكون في عمله نقص وقصور، ولهذا نصلي وأول ما نبدأ به بعد الصلاة أن نقول: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله؛ لأن الإنسان لا يخلو من خلل، وهنا قالوا:(سمعنا وأطعنا) ثم قالوا: (غفرانك) خشية أن يكون فيما أطاعوا الله فيه شيءٌ من النقص، قال الله تعالى:{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:١٨] بعدما يصلون ويتهجدون يتفرغون للاستغفار، سبحان الله! وهم قد تهجدوا في الليل، فلماذا يسألون بالاستغفار في آخر الليل؟ خوفاً من أن يكون في عبادتهم نقص، وهذه ملاحظة ينبغي للإنسان أن ينتبه لها، لا تقل: أنا صليت وبرئت الذمة وحصلت القربة من الله، لا.
لا تقل هكذا، لعله يكون فيها نقص، حسناً يقول:{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} قد يقول المبتدي في النحو: لماذا لم تكن ربِنا، صفة للكاف التي محلها الجر؟ أنا لا أظن أن أحداً لا يعرف إعراب (ربَنا) ممن شم رائحة النحو، فهي منادى حذفت منه ياء النداء، ربنا يعني: يا ربنا! نسألك غفرانك، ونعم الرب ربنا جل وعلا، وما أقربه من الداعي:(وينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) اللهم اجعلنا ممن يتعرضون لهذا النداء يا رب العالمين.
يقول:{رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} هل المراد إليك المصير في عبادتنا فلا نشرع إلا ما شرعت، إليك المصير في تدبير أمورنا فأنت تدبر أمورنا، إليك المصير يوم القيامة، هل يشمل هذه الثلاثة وغيرها مما مصيره إلى الله؟ أو خاص بيوم القيامة؟
الجواب
يشمل، وسنعطيكم فائدة في التفسير: إذا رأيت الآية تشمل معانٍ متعددة لا ينافي بعضها بعضاً، وليس بعضها أولى من البعض، فاحملها على العموم، وهذه قاعدة تفيد طالب العلم.
انظروا إلى قول الله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}[التكوير:١٧-١٨] ماذا قال المفسرون في (عسعس) ؟ قالوا: أقبل، وبعضهم قال: أدبر، أي قالوا: إن الله أقسم بالليل حين إقباله، وبعضهم قال: أقسم بالليل حين إدباره، والآية تشمل التفسيرين، إذاً:(عسعس) من أفعال الأضداد، في اللغة العربية أفعال تكون للشيء وضده.
فعلى أيها تحمل الآية؟ نحملها على العموم، يعني: على المعنيين جميعاً، نقول: أقسم الله تعالى بالليل إذا أقبل والليل إذا أدبر؛ لأن إقبال الليل وإدباره من أعظم آيات الله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:٧١-٧٣] .
إذاً: قول الله تعالى: (وإليه المصير) يشمل العموم: المصير في الآخرة، المصير في الشرع، المصير في القدر، كل شيء، المصير إلى الله عز وجل، قال الله تعالى:{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:٤٢]{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}[العلق:٨] .