قال تعالى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:٥] إلى آخر ما ذكر الله في هذه السورة، وفي النهاية قال:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:٤٦] وذكر الجنتين، ثم ذكر جنتين أخريين، وقد اختلف العلماء: أيهما أفضل: الجنتان الأوليان أو الأخريان؟ والصواب: أن الجنتين الأوليين أفضل، إذا تدبرتها وجدت:{فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:٥٢] ، وفي الأخريين:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن:٦٨] أيهما أعم؟ الأولى.
قال تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:٥٠] ، وهناك:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}[الرحمن:٦٦] والنضخ أقل من الجريان.
{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}[الرحمن:٥٦] ، وهناك قال:{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن:٧٢] وفرق بين قاصرات الطرف والمقصورات؛ قاصرات الطرف يعني: أن أزواجهن لا ينظرون إلى غيرهن، تقصر طرف زوجها عن غيرها؛ لأنها قد ملأت قلبه سروراً، وملأت بصره نظراً، أما هناك: مقصورات في الخيام، ومع هذا نقول: إن الحور المذكورات في الأوليين والأخريين أوصافهن للجميع، ولهذا تجد:{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:٥٠]{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}[الرحمن:٦٦]{فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:٥٢]{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن:٦٨] كلها بلفظ التثنية، فيهما فيهما، لكن لما تكلم عن الحور قال:(فيهن) فأتى بالجمع، فيستفاد منه والله أعلم: أن هذه الأوصاف؛ أوصاف الحور العين ثابتة في كلٍ من الجنتين الأوليين والأخريين.
وآخر الأمر قال:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}[الرحمن:٧٨] وقال في أثناء السورة: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}[الرحمن:٢٦-٢٧] وهنا نسأل أهل النحو: لماذا قال: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ)) و {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}[الرحمن:٧٨] ؟ قوله:(ذو) في قوله تعالى: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ)) صفة لوجه و (وجه) مرفوعة لأنها فاعل والصفة تتبع الموصوف فجاءت مرفوعة.
أما قوله (ذي) في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}[الرحمن:٧٨] فهي مجرورة بالإضافة فكانت الصفة (ذي) ولم تكن (ذو) لماذا؟ لأن الموصوف بالجلال والإكرام هو وجه الله عز وجل، أما اسمه فهو اسم ليس ذا الجلال ولا ذو الجلال والإكرام، وذو الجلال والإكرام هو الرب ووجه الرب، وفي الآية:((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)) [الرحمن:٢٧] إثبات صفة من صفات الله وهي الوجه لله عز وجل، وهناك آية أخرى تثبت الوجه لله وهي قول الله عز وجل:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[القصص:٨٨] .
وكذلك قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة:١١٥] فهذه آيات في القرآن الكريم، والحكم يثبت بخبر واحد عن الله عز وجل أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف إذا تكرر؟ ومن هنا نأخذ: إثبات الوجه صفةً لله عز وجل، وهذا الوجه هل يمكن أن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين؟ لا.
لقول الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:١١] ، ولأنه باتفاق العقلاء: إذا اشترك اثنان في اسم فإنه لا يلزم تماثل المسمى، أي أن: الاشتراك في الأسماء لا يلزم منه تماثل المسميات، فنحن نعلم أن للفرس وجهاً وللبعير وجهاً، فهل يمكن أن يكون هذا مثل هذا؟ حسب الواقع لا، لكن لو شاء الله لكانا سواءً.
إذاً: إليكم قاعدة مفيدة في الأسماء والصفات: لا يلزم من الاشتراك بالأسماء تماثل المسميات، إذاً: نقول: لله وجه يليق بجلاله ولا يشبه أوجه المخلوقين.